في الدفاع عن الشعبوية الاقتصادية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يمقت الشعبويون القيود المفروضة على السلطة التنفيذية السياسية. ولأنهم يَدَّعون أنهم يمثلون الشعب بوضوح، فإنهم يرون أن القيود التي تحد من ممارستهم للسلطة تقوض بالضرورة الإرادة الشعبية.

وعلى هذا فإن هذه القيود لا تخدم إلا «أعداء الشعب» ــ الأقليات والأجانب (في نظر الشعبويين اليمينيين) أو النخب المالية (في حالة الشعبويين اليساريين)، وهو توجه بالغ الخطورة في التعامل مع السياسة، لأنه يسمح للأغلبية بملاحقة مسار أناني لا يبالي بحقوق الأقليات.

وفي غياب الفصل بين السلطات، أو القضاء المستقل، أو وسائل الإعلام الحرة ــ وهي أمور يمقتها كل الحكام المستبدين الشعبويين، حيث تتحول الديمقراطية إلى طغيان من جانب من يتصادف وجوده في السلطة أياً كان.

الواقع أن الانتخابات الدورية في ظل الحكم الشعبوي تتحول إلى ستار دخاني يحجب ما يحدث على الأرض حقاً، وفي غياب سيادة القانون والحريات المدنية الأساسية، تصبح الأنظمة الشعبوية قادرة على إطالة أمد بقائها في الحكم من خلال التلاعب بالإعلام والقضاء حسبما تشاء.

تمتد جذور كراهية الشعبويين للقيود المؤسسية إلى الاقتصاد، حيث تعني ممارسة السيطرة الكاملة «لصالح الشعب» إزاحة أي عقبة في طريقهم قد تفرضها هيئات تنظيمية مستقلة، أو بنوك مركزية مستقلة، أو قواعد تجارية عالمية. ولكن في حين تُعَد الشعبوية في المجال السياسي ضارة في كل الأحوال تقريباً، فإن الشعبوية الاقتصادية قد تكون مبررة في بعض الأحيان.

ولنبدأ هنا بالأسباب التي ربما تجعل من الصواب فرض القيود على السياسة الاقتصادية في المقام الأول. يميل أهل الاقتصاد إلى عشق مثل هذه القيود، لأن عملية صنع السياسات التي تستجيب بشكل كامل لشد وجذب السياسة الداخلية من الممكن أن تسفر عن نتائج غير فعّالة إلى حد كبير.

وبشكل خاص، كثيراً ما تخضع السياسة الاقتصادية لمشكلة ما يسميه أهل الاقتصاد التضارب الزمني: فكثيراً ما تتسبب المصالح القصيرة الأمد في تقويض الجهود الرامية إلى ملاحقة سياسات أكثر استصواباً في الأمد البعيد.

والمثال المتعارف عليه هنا هو السياسة النقدية التقديرية. فالساسة الذين يملكون القدرة على طباعة النقود كما يتراءى لهم ربما يعملون على توليد «تضخم مفاجئ» لتعزيز الناتج وتشغيل العمالة في الأمد القريب - ولنقل، قبل الانتخابات.

لكن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية، لأن الشركات والأسر تعدل توقعاتها للتضخم. وفي نهاية المطاف، لا تسفر السياسة النقدية التقديرية إلا عن ارتفاع التضخم من دون أن تحقق أي مكاسب في الناتج أو تشغيل العمالة. والحل هو بنك مركزي مستقل، معزول عن السياسة، ويعمل فقط على تنفيذ تفويضه المتمثل في الحفاظ على استقرار الأسعار.

الواقع أن تكاليف شعبوية الاقتصاد الكلي مألوفة في أميركا اللاتينية. وكما زعم جيفري ساكس، وسباستيان إدواردز، وروديغر دورنبوش قبل سنوات، كانت السياسات النقدية والمالية غير المستدامة مصدر أذى للمنطقة إلى أن بدأت المعتقدات الاقتصادية التقليدية تسود في تسعينيات القرن العشرين.

فتسببت السياسات الشعبوية دورياً في إحداث أزمات اقتصادية مؤلمة، والتي ألحقت أعظم الضرر بالفقراء. ولكسر هذه الحلقة، تحولت المنطقة إلى القواعد المالية ووزراء المالية التكنوقراط.

وتُعَد المعاملة الرسمية للمستثمرين مثالاً آخر. فبمجرد أن تقوم شركة أجنبية بالاستثمار، فإنها تتحول في الأساس إلى أسيرة لنزوات الحكومة المضيفة. وتُنسى الوعود التي بذلت لاجتذاب الشركات بسهولة، لكي تحل محلها سياسات تفرض الضغوط عليها لصالح الميزانية الوطنية أو الشركات المحلية.

بيد أن المستثمرين ليسوا أغبياء، وعلى هذا فإنهم خوفاً من هذه النتيجة ينتقلون إلى الاستثمار في مكان آخر. وبالتالي أدى احتياج الحكومات إلى ترسيخ مصداقيتها إلى إبرام اتفاقيات تجارية تضم ما يسمى فقرات تسوية المنازعات بين المستثمرين والدولة، مما يسمح للشركات بمقاضاة الحكومة في المحاكم الدولية.

وهذه أمثلة للقيود المفروضة على السياسة الاقتصادية والتي تتخذ هيئة تفويض لهيئات مستقلة أو مسؤولين تكنوقراطيين، أو قواعد خارجية. وطبقاً لوصفها، فإنها تؤدي الوظيفة القيمة المتمثلة في منع من يتولون السلطة من إلحاق الأذى بأنفسهم من خلال ملاحقة سياسات تتسم بقِصَر النظر.

لكن الأمر لا يخلو من سيناريوهات أخرى، حيث قد تكون العواقب المترتبة على فرض القيود على السياسة الاقتصادية أقل فائدة. وبشكل خاص، ربما تؤسس القيود من قِبَل المصالح الخاصة أو النخب ذاتها، لتعزيز السيطرة الدائمة على عملية صنع السياسات. وفي مثل هذه الحالات، لا يؤدي تفويض الهيئات المستقلة أو التوقيع على قواعد عالمية إلى خدمة المجتمع، ولكن فقط فئة ضيقة من «المطلعين».

تمتد جذور جزء من ردة الفعل الشعبوية اليوم إلى اعتقاد غير مبرر بشكل كامل ومفاده أن هذا السيناريو يصف قدراً كبيراً من عملية صنع السياسات الاقتصادية في العقود الأخيرة.

فقد تولت الشركات المتعددة الجنسيات والمستثمرون على نحو متزايد عملية صياغة أجندة مفاوضات التجارة الدولية، الأمر الذي أدى إلى نشوء أنظمة عالمية يستفيد منها على نحو غير متناسب رأس المال على حساب العمالة. وتُعَد قواعد براءات الاختراع الصارمة ومحاكم المستثمرين الدولية من الأمثلة الرئيسية هنا.

لعبت البنوك المركزية دوراً بالغ الأهمية في خفض معدلات التضخم في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. ولكن في البيئة الحالية التي تتسم بانخفاض التضخم، فإن تركيزها على استقرار الأسعار ينم عن انحياز انكماشي للسياسة الاقتصادية ويتعارض مع توليد فرص العمل والنمو، وربما تكون هذه «الليبرالية الديمقراطية» في أوجها في الاتحاد الأوروبي.

حيث تصمم القواعد والتنظيمات الاقتصادية. وفي كل الدول الأعضاء تقريباً، أدت هذه الفجوة السياسية - ما يسمى العجز الديمقراطي في الاتحاد الأوروبي - إلى ظهور أحزاب سياسية شعبوية ومتشككة في أوروبا.

في مثل هذه الحالات ربما يكون تخفيف القيود المفروضة على السياسة الاقتصادية وإعادة عملية صنع السياسات الاقتصادية إلى حكومات منتخبة أمراً مرغوباً. فالأوقات الاستثنائية تتطلب حرية التجريب في السياسة الاقتصادية.

وتقدم لنا صفقة فرانكلين روزفلت الجديدة مثالاً تاريخياً مناسباً. فقد تطلبت إصلاحات فرانكلين روزفلت أن يعمل على إزالة الأغلال الاقتصادية التي فرضها قضاة محافظون ومصالح مالية في الداخل ومعيار الذهب في الخارج.

ينبغي لنا أن نتوخى الحذر دوماً من الشعبوية التي تخنق التعددية السياسية وتقوض المعايير الديمقراطية الليبرالية. والشعبوية السياسية تهديد ينبغي لنا أن نتجنبه بأي ثمن. أما الشعبوية الاقتصادية، فهي على النقيض من ذلك ضرورية في بعض الأحيان. والحق أنها في مثل هذه الأوقات ربما تكون السبيل الوحيد لإحباط تأثير الشعبوية السياسية الأشد خطورة.

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي في جامعة هارفارد

 

Email