الحرية في العصر الرقمي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالَم على مدار الأسابيع القليلة الماضية، مشبعة بقصص عن الكيفية التي تعمل بها التكنولوجيا على تدمير السياسة.

ومكمن الخوف في الأنظمة الاستبدادية، هو التمكين المفرط لدولة «الأخ الأكبر».

كما في رواية الكاتب جورج أورويل (1984). أما ما يدعو إلى القلق في الديمقراطيات مثل الولايات المتحدة، فهو أن تستمر شركات التكنولوجيا في تعظيم الاستقطاب السياسي والاجتماعي من خلال تسهيل انتشار المعلومات المضللة وخلق «فقاعات ترشيح» إيديولوجية، مما يؤدي إلى شيء أشبه برواية ألدوس هيكسلي «عالَم جديد شجاع».

في واقع الأمر، من خلال تحقيق التقارب بين الديمقراطية والدكتاتورية، تعمل التكنولوجيات الجديدة على جعل تحقق أي من هاتين الرؤيتين المخيفتين في حكم المستحيل. ولكن هذا لا يعني عدم وجود سبب للخوف.

البيانات ضخمة بالفعل. فهناك أكثر من 170 مليون كاميرا مراقبة للتعرف على الوجوه تتتبع كل خطوة يخطوها المواطنون. وبوسع النظام الأمني الذي يستعين بالذكاء الاصطناعي أن يكتشف المشتبه بهم جنائياً وهم يقودون دراجاتهم بجانب بحيرة أو يشترون الحلوى من بائع جائل، فتصدر تحذيراً للشرطة على الفور.

وتصب كاميرات مراقبة البيانات في بنك بيانات «الائتمان الاجتماعي»، حيث يقوم النظام بتجميع ملفات ضخمة عن الجدارة الائتمانية للمواطنين، وأنماط استهلاكهم، ومصداقيتهم في الإجمال، وكان تأثير التكنولوجيا على السياسة الأميركية أشد وضوحاً.

ولكن تحليل هذا التأثير يجري في ما يتصل بالسوق، وليس الدولة. وبين القصص الأكثر لفتاً للانتباه كان الدور الذي لعبته «الأخبار الزائفة» في تشكيل هيئة الانتخابات الرئاسية في العام المنصرم. وقد اعترفت شركة فيسبوك بأن 126 مليون أميركي ربما شاهدوا أخباراً زائفة خلال الحملة.

في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، قام المستشار الخاص روبرت مولر، الذي يجري الآن تحقيقاً حول ما إذا كانت حملة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تواطأت مع تدخل روسيا في انتخابات عام 2016، بتوجيه 12 تهمة إلى رئيس الحملة في وقت ما بول مانافورت ــ بما في ذلك «التآمر ضد الولايات المتحدة» ــ لتصرفاته قبل الحملة.

كما جرى توجيه الاتهام إلى مستشار السياسة الخارجية لحملة ترامب، وهو جورج بابادوبلوس، بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن لقاءات مع أفراد مرتبطين بشكل وثيق بالحكومة الروسية خلال الحملة الانتخابية، وإن كان قد أقر بالذنب بالفعل وكان متعاوناً مع المحققين منذ الصيف.

ولكن وراء هذه التطورات المذهلة يكمن قلق أوسع نطاقاً بشأن قدرة شركات التكنولوجيا على السيطرة على المعلومات التي يتلقاها الناس. ولأن شركات التكنولوجيا الكبرى تستخدم خوارزميات سرية لتحديد الكيفية التي نتصور بها العالَم، فقد أصبح من الصعب على نحو متزايد أن يتخذ الناس قرارات واعية ــ وهو ما يعتبره الفلاسفة البعد الأساسي للإرادة الحرة.

تسعى شركات التكنولوجيا الكبرى، التي تتجاوز قيمتها الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول، إلى تعظيم الأرباح، وليس نشر الرفاهة الاجتماعية. ومع ذلك، في وقت حيث يحل الاهتمام محل المال باعتباره السلعة الأعظم قيمة، فإن تأثير القرارات التي تتخذها هذه الشركات يُصبِح بعيد المدى.

ويزعم جيمس ويليامز، وهو أحد مهندسي غوغل الذي تحول إلى أكاديمي، أن العصر الرقمي أطلق العنان لمنافسة شرسة لنيل اهتمامنا، وقليلون هم من استفادوا أكثر من ترامب، الذي كان للإنترنت ما كان رونالد ريغان للتلفزيون.

في الوقت نفسه، سنجد أن تأثير التكنولوجيا على السياسة مستقل نسبياً عن نوع النظام. ذلك أن التكنولوجيا تعمل على تشويش التمييز المريح بين المجتمعات المفتوحة والمغلقة، وبين الاقتصادات الموجهة والحرة، فتجعل من المستحيل في نهاية المطاف تواجد أي منها في هيئتها المثالية.

ومن خلال الكشف الضخم عن المراقبة الحكومية باستخدام إدارة الأمن الوطني، أوضح إدوارد سنودن أن رغبة الدولة في الحصول على معرفة غير محدودة لا تقتصر على الصين. بل على العكس من ذلك، يمثل هذا أهمية مركزية لفكرة الأمن الوطني في الولايات المتحدة.

وفي الصين، تتحرك الأمور في الاتجاه المعاكس. من المؤكد أن الحكومة الصينية تمارس الضغوط على أكبر شركات التكنولوجيا لمنحها دوراً مباشراً في عملية اتخاذ القرار في الشركات ــ والقدرة على الوصول المباشر إلى البيانات. ولكن في الوقت نفسه، تعمل شبكة الإنترنت على تغيير طبيعة السياسة الصينية والاقتصاد الصيني، على النحو الذي يدفع الاثنين إلى الاستجابة بشكل أكبر لاحتياجات المستهلكين.

على سبيل المثال، شرح لي صديق عمل لصالح محرك البحث بايدو كيف تحاول الشركة تعزيز تجربة المستهلك للرقابة، واختبار الطرق التي يفضلها الناس للخضوع للرقابة. ويعتقد جاك ما من شركة التكنولوجيا العملاقة علي بابا أن الصين قادرة على استخدام البيانات الضخمة لتصميم تدخلات الدولة ومعايرتها بشكل مثالي بحيث تمكنها من التفوق على اقتصادات السوق الحرة. كما يعتقد جاك ما أن «الاقتصاد الموجه سوف يتزايد ضخامة» في العقود المقبلة.

في العصر الرقمي، لا يكمن الخطر الأكبر في أن التكنولوجيا ستجعل المجتمعات الحرة والاستبدادية في صراع متزايد الحدة، بل يتمثل الخطر الأكبر في أن أسوأ مخاوف كل من أورويل وهيكسلي سوف تتجلى في هذين النمطين من الأنظمة، فتخلق نوعاً مختلفاً من «المدينة الفاسدة» (ديستوبيا). ومع تلبية العديد من أعمق رغباتهم، سوف يتملك وهم الحرية والتمكين من المواطنين.

وفي حقيقة الأمر، سوف تتحدد حياتهم، والمعلومات التي يستهلكونها، والاختيارات التي يقومون بها، وفقاً لخوارزميات ومنصات تسيطر عليها نخب شركات أو حكومية غير خاضعة للمساءلة.

* مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية

 

Email