اعتناق مستقبل رقمي متشابك

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يسافر المرء عبر ألمانيا خلال فترة التحضير السابقة للانتخابات الفيدرالية في الرابع والعشرين من سبتمبر، لا يملك إلا أن ينتبه إلى علامات الصدمة العميقة المتخلفة عن أزمة اللاجئين في عام 2015.

على نحو مفاجئ ودون سابق إنذار تقريبا، تدفق ما يقرب من مليون شخص يائس - أغلبهم من السوريين الفارين من المذبحة في وطنهم - إلى ألمانيا. ورغم أن ألمانيا ربما تكون الدولة الأفضل إدارة بيروقراطيا في أوروبا، فإنها لم تسلم من الارتباك.

كانت استجابة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل للأزمة قبل عامين هي التخلص من دليل القواعد وفتح حدود بلادها. وفي مناسبة شهيرة قالت للشعب الألماني: "نستطيع أن نفعل ذلك" ، لكن الرأي العام الألماني اليوم يشير إلى أن ألمانيا أصبحت أكثر تحفظا إزاء مثل هذه الإشارات الجريئة. صحيح أن ألمانيا فعلت ذلك، لأنها لم يكن لديها بديل، والعديد من الألمان فخورون ببلدهم لارتفاعه إلى مستوى الحدث. ولكن أغلبهم يأملون أن لا تتكرر مثل هذه الأزمة مرة أخرى أبداً، ورغم أن العديد من الألمان تقبلوا ما حدث قبل عامين، فإن أقلية صغيرة لا تزال تشعر بأنها كانت ضحية خيانة. وقد استجابوا بالغضب والقومية الكارهة للأجانب، وسوف تنعكس هذه المشاعر على تصويتهم بلا أدنى شك.

ولكن ينبغي لنا أن نضع الصدمة التي أحدثتها أزمة اللاجئين في ألمانيا في منظورها الصحيح. كانت أعداد اللاجئين الذين بحثوا عن الحماية ووجدوها في دول مثل لبنان وتركيا أكبر كثيراً من أعدادهم في ألمانيا. وبالحسابات النسبية، لو أرادت ألمانيا مضاهاة لبنان في عام 2015، فإنها كانت لتضطر إلى قبول 20 مليون لاجئ. وفي تركيا، تستضيف إسطنبول وحدها الآن عدداً من اللاجئين أكبر من مجموعهم في ألمانيا بالكامل.

بطبيعة الحال، ألمانيا ليست الدولة الأوروبية الوحيدة التي تظل غير مستقرة بفِعل أزمة اللاجئين. ففي بلدي، السويد، من المرجح أن يحقق أي حزب سياسي يريد عزلنا عن بقية العالَم مكاسب قوية في الانتخابات العامة في العام المقبل. وفي العديد من دول أوروبا الوسطى التي استعادت مؤخراً فقط حس السيادة، يُنظَر إلى اللاجئين على نطاق واسع على أنهم يشكلون تهديدا للهوية الوطنية.

سوف تهيمن هذه القضايا على السياسة الأوروبية في السنوات المقبلة على نحو أو آخر. فأوروبا تحاول ببطء بناء القدرة على الصمود في مواجهة مثل هذه الصدمة التي شهدتها في عام 2015. إنها القارة التي صدرت ذات يوم الحرب والاضطرابات، ولكنها الآن راغبة في حماية نفسها من مشاكل جيرانها.

من الدروس المستفادة من عام 2015 أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى وضع سياسة خارجية وأمنية مشتركة أقوى كثيراً. ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يستعيض عن الخطابة النبيلة بإجراءات ملموسة، في حين يتقبل أيضا مسؤولياته الإقليمية والعالمية. فالأسلاك الشائكة بين المجر وصربيا لن تحمي أوروبا من آثار الحرب في أوكرانيا، أو الانقلابات والإرهاب في الأناضول، أو الدمار العنيف في بلاد الشام وبلاد الرافدين. ولن تساعد أوروبا في إدارة التحول الدراماتيكي الجاري الآن في أفريقيا، التي ستصبح موطنا لنحو 40% من سكان العالَم في سن العمل في غضون بضعة عقود من الزمن.

من دروس عام 2015 أيضا أن الدول الأوروبية لابد أن تتعلم إعادة تعريف هويتها الوطنية. فقد بنيت الولايات المتحدة، وأستراليا، وكندا على الهجرة، وأغلبنا ننحدر من نسل أناس أتوا من أماكن أخرى. في الواقع، لم يتبق الكثير من "الأمم الأولى" في هذه البلدان. والآن بات من الممكن تماما أن يكون عدد السكان من أصل سويدي في شيكاغو أكبر من عددهم في ستوكهولم.

من المؤكد أن أوروبا تختلف عن نظيراتها الغربية. فقد ظلت قبائلها تتقاتل في ما بينها لآلاف السنين. وعلى مدار القرنين المنصرمين، كان الأوروبيون حريصين على بناء الدول القومية والهويات الوطنية المتزايدة القوة على أساس تجارب تاريخية طويلة ومعقدة.

وبطبيعة الحال، بُني الاتحاد الأوروبي ذاته بواسطة دول قومية. ولكن مواطني هذه الدول أرادوا أن يتغلبوا على إرثهم الطويل من القَبَلية والحرب. وإذا حكمنا على الأمر من خلال هذا الهدف، فبوسعنا أن نقول إن نصف القرن الأول من عمر الاتحاد الأوروبي كان نجاحاً هائلاً. غير أن التوترات بادية للعيان. وسواء كان ذلك مبرراً أو لم يكن، فإن الغرائز القِبَلية تعود إلى الظهور عندما يستشعر الناس تهديداً لهويتهم الوطنية. وفي نظر قِلة مرتعبة حقا، أصبحت كل من بروكسل ومكة تمثل تهديداً قاتلاً.

إذا كان لأوروبا أن توجد لنفسها مكاناً في عالَم سريع التغير، فيتعين على مواطنيها أن يتعلموا كيف يستفيدون من الهويات المتعددة. فبوسع المرء أن يكون سويدياً فخوراً وأوروبياً فخوراً في نفس الوقت؛ وبوسع المرء أن يكون ألمانياً وتركياً في آن، وأن يستمد القوة من هذه الازدواجية. فليس من قبيل الغدر والعقوق أن يرى المرء نفسه مواطنا للعالَم. بل هو على العكس تماما، موقف مشرف.

الحق أن مثل هذا التحول في المواقف من شأنه أن يوفر الأساس لأوروبا مختلفة تماماً. فبهذا نتحول بعيداً عن الصراعات والمخاوف القَبَلية القديمة أخيرا، ونعتنق مستقبلاً رقمياً متشابكاً. قالت أنغيلا ميركل، التي تؤكد المؤشرات الاولية فوزها لولاية أخرى لأربع سنوات كمستشارة لألمانيا ، للمواطنين الألمان إنهم "يستطيعون أن يفعلوا ذلك". ولكن هل تفعلها ألمانيا وبقية أوروبا؟ ما علينا إلا أن ننتظر ونرى. فالمهمة صعبة.

* رئيس وزراء السويد ووزير خارجيتها سابقاً

Email