القطاع الخاصّ.. ما له وما عليه

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما يتمّ إرجاع السبب الرئيس لانتفاضات الربيع العربيّ إلى فشل النموذج التنموي الذي ساد منذ حصول البلدان العربيّة على استقلالها. ويتمّ وضع المسؤوليّة الأساسيّة على السلطات الحكوميّة وعلى الاستبداد، أنّه هو الذي استولى على الموارد وأعاق التنمية. هناك قدرٌ من الصحّة في هذا التحليل. إلاّ أنّه لا يساعد على استقراء نموذج تنمويّ جديد. إذ أنّه يختزل واقعاً أكثر تعقيداً وتطوّرات كبيرة حصلت، والأهمّ أنّه ينفي المسؤوليّة عن فاعلين آخرين، وخاصّة ما يسمّى بشكلٍ عام القطاع الخاصّ.

صحيحٌ أنّ دولاً عربيّة كمصر وسوريا كانت أكثر نموّاً وتنمية في خمسينيات القرن الماضي من نمور آسيا، التي أضحت فيما بعد لاعبة اقتصاديّة مهمّة على الساحة العالميّة. لكن إذا قارنا مؤشّرات التنمية للبلدان العربيّة مع مثيلاتها العالميّة، ليس بالمطلق وإنّما نسبة للناتج المحلّي للفرد، فإننّا سنتفاجأ أنّ بعض البلدان العربيّة الكثيفة السكّان القليلة الموارد قد أبلت بلاءً حسناً نسبيّاً في حين أنّ أغلب البلدان القليلة السكّان الكثيرة الموارد متأخرة عن نظيراتها العالميّة.

هناك أيضاً مراحل تاريخيّة مختلفة مرّت بها اقتصادات البلدان العربيّة منذ الخمسينيات. أهّم منعطفاتها قفزة أسعار وإيرادات النفط في أوائل السبعينيات، وانخراط جميع الدول العربيّة النهائي في العولمة والإصلاح الهيكلي منذ التسعينيات. غيّرت هذه المنعطفات كثيراً في السياسات الاقتصاديّة وكان لها آثارها الواضحة على التنميّة، بشكلٍ مختلف عن الفترات التي سبقتها. ليس فقط على السياسات الاقتصاديّة بل على الاقتصاد السياسي، أي ما أدّى إلى ترسّخ الاستبداد من ناحية وما أضعف أجهزة الدولة أمام السلطة وأمام قسمٍ من القطاع الخاصّ.

هكذا أضحت جميع البلدان العربيّة منذ الفورة النفطيّة مريضة اقتصاديّاً بالمرض الهولندي، أي بلعنة الاعتماد على الموارد الطبيعيّة. سواءٌ إن كانت هذه الموارد نفطاً وغازاً أو فوسفات أو سياحة أو تحويلات مغتربين. وسواءٌ أكانت هذه الدول قليلة السكّان أم كثيفة. ومنذ الإصلاح الهيكلي الذي فرضه صندوق النقد الدوليّ معياراً، عجز الاستثمار الخاصّ عن اللحاق بمستويات الاستثمار العامّ التي كانت رائجة سابقاً أو لدى الدول المشابهة في العالم. بالتالي أتى ترسّخ الاستبداد، حتّى مقارنة مع الفترات السابقة، ليس كسببٍ وإنّما كنتيجة لهذه التطوّرات. أو بالأحرى ترسّخ نوع عقيم من الاستبداد.

أيضاً أتى الانخراط في العولمة معوجّاً. دخل الهاتف الخلوي ودخلت الإنترنت وخدماتهما الحديثة في حين ترزح الكثير من المناطق دون هاتف وكهرباء ومياه شرب نظيفة وصرف صحيّ ووسائل نقل عامّة. وفشلت الدول العربيّة في إنتاج شركات متعدّدة الجنسية لها مكانتها في الأسواق العالميّة، بالرغم من حجم أسواقها الداخليّة وأموال صناديقها السياديّة.

يقول بعض الاقتصاديين العرب إنّ أيّ نموذج تنموي جديد يجب أن يقوم على توسيع الخيارات، إضافة إلى العدالة الاجتماعيّة والتمكين البشريّ. وهم محقّون. والمعنيّ الأساسيّ بتوسيع الخيارات هو ما يسمّى القطاع الخاص.

القطاع الخاصّ هو جميع النشاطات الاقتصاديّة إلاّ ما يخصّ المصلحة العامّة. تعبيرٌ يضمّ نشاطات واسعة جدّاً وكثيرة الاختلاف في الحجم والقوّة، انطلاقاً من الشركات العالميّة الكبرى حتّى عربة البوعزيزي. نعم كان البوعزيزي عندما يجرّ عربته لبيع الخضرة قطاعاً خاصّاً، ومؤسّسة اقتصاديّة، مع إشكاليّة أنّه ليس مسجّلاً في السجلّ التجاري. وليس له حقوق واضحة، لا كفرد ولا كمؤسسة.

بالتالي لا يُمكن اعتبار القطاع الخاصّ قطاعاً متجانساً. إذ أنّ أغلبه هو بالضبط من هؤلاء المشتغلين غير النظاميين لحسابهم الخاصّ، الذين تشابه أوضاعهم أوضاع العاملين بأجرٍ غير النظاميين. يضاف إليهم الشركات الصغيرة والمتوسّطة المنظّمة والمسجّلة رسميّاً التي تقوم بأغلبيّة التوظيف الخاصّ وتعاني من السياسات الحكوميّة ومن الشركات الكبرى على السواء، في حين تتحمّل هي بالتحديد أغلبيّة العبء الضريبيّ المباشر.

هكذا، لا يقوم أيّ نموذجٍ تنمويّ جديد في البلدان العربيّة حقّاً على المفاضلة بين حقوق العمّال وحقوق القطاع الخاصّ بالمعنى الواسع، بل على حماية حقوق الاثنين وتوسيع الخيارات لكليهما. حقوق العمّال واضحة من حيث المبدأ وتضبطها شرعات دوليّة، لكنّها لا تحترم لأنّ معظم التشغيل بأجر في البلدان العربيّة خارج القطاع العام هو غير نظاميّ. أمّا حقوق القطاع الخاصّ فهي أقلّ وضوحاً، ولا تشمل في أغلب الأحيان سوى حقوق الملكيّة.

بالتالي، يتلازم الجهد لحماية وتنفيذ حقوق العمل في النموذج التنمويّ الجديد مع الجهود لتوضيح وصون حقوق القطاع الخاصّ، وخاصّة شريحته الأوسع الصغيرة والمتوسطّة. وهذا يمرّ عبر توضيح مفاهيم «الصالح العام» و«الخدمات العامّة»، كي لا يتمّ التلاعب بهما أو استخدامهما جوراً للتعدّي على حقوق الأعمال. مثال ذلك وضع أطر وقوانين تكافح الاحتكار والإغراق والريوع الاقتصاديّة، ما يسمح للأعمال الخاصّة بالتأقلم المتوازن مع العولمة ومع التطوّرات المتسارعة لتقنيّاتها الحديثة. صحيحٌ أنّ على منظّمات المجتمع المدنيّ الدفاع عن حقوق المواطنين والمشتغلين ومساءلة مؤسّسات الدولة والقطاع الخاصّ. أي الدفاع عمّا هو صالح عام، وعن تنفيذ الحكومات كما الشركات مسؤوليّاتها تجاه هذا الصالح العام والمجتمع. إلاّ أنّ هذا الصالح العام يقتضي أيضاً إيضاحاً حقوق القطاع الخاصّ، خاصّة وأنّ أغلبيّته يعيش أوضاعاً غير مستقرّة في ظلّ عولمة متسارعة وهيمنة للشركات الكبرى، لا يستطيع التأقلم معها.

هنا يأتي مسار تونس كتجربة معياريّة لإمكانيّة تحقيق نموذج تنموي ّجديد لما بعد «ثورات الربيع العربيّ». لكن ما الذي أتت به هذه التجربة خلال سنين خمس؟

تقاسمت مجموعة من القوى السياسيّة النشاطات الريعيّة للسلطة الاستبداديّة السابقة. ويعيش البلد عدم استقرار سياسيّ لنظام برلمانيّ يرتكز على العاصمة. وانخفض النشاط الاقتصاديّ مع غياب الرؤية وإمكانيّة توقّع السياسات على المدى المتوسّط. وتفاقم سوء الأوضاع الاقتصاديّة في المناطق الطرفيّة. وما زال القطاع المصرفيّ متعثّراً بديون موروثة من النظام السابق. ولم تـأتِ المساعدات الخارجيّة لحماية التجربة الديمقراطيّة. ولم تجرِ استفادة ظرفيّة من أوضاع الدول المحيطة، ليبيا والجزائر وأفريقيا أو سوريا. ولا يوجد أفق في نقاش السياسات الاقتصاديّة الحكوميّة سوى الاستثمارات العقاريّة واتفاقيّة التجارة الحرّة الموسّعة مع أوروبا. مع انقسامٍ حادّ حتّى ضمن الاتحاد العام للشغل ومنظّمات المجتمع المدنيّ حول الأمرين.

تصوّروا على العكس لو أنّ تحالفاً قام بين النقابات والمجتمع المدنيّ وقطاع الأعمال الخاصّ الصغير والمتوسّط لمشاريع اقتصاديّة مناطقيّة، انطلاقاً ممّا أسّس له الدستور الجديد. لكان ذلك حقّاً بداية لنموذجٍ جديدٍ للتنمية.

* رئيس منتدى الاقتصاديين العرب، ورئيس تحرير سابق لـ لموند دبلوماتيك «النسخة العربية».

 

Email