يحترقون لينيروا دروب المعرفة لمجتمعاتهم

القابضون على جمّر الكتابة غواية حد الاحتراق

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يتجول الجَدّ سالم، 85 عاماً، مع حفيده أحمد، الطالب بكلية الإعلام، 22 عاماً، بين أروقة مكتبة الشارقة المزدانة بآلاف الكتب من مختلف الثقافات، والاتجاهات، والأفكار. وبعفوية الشباب، المدفوع بالفضول، يسأل جدّه، بعدما وقف لدقائق معدودات مبهوراً بطريقة عرض المجلدات على أرفف المكتبة: "أرى كثيراً من الشباب مثلي لا يقبلون على القراءة، وجلّ اهتمامهم صرعات الموضة، وآخر الإصدارات في عالم السيارات والموبايلات وغيرها، فلماذا إذن يكتب الكُتّاب؟ ولمن يكتبون؟

جابر عصفور.. لماذا يكتب؟
يجلس الجدّ بعدما أتعبه الوقوف باحثاً عن العدد السادس والخمسين من مجلة "دبي الثقافية" الصادر في العام 2010، ويقول: سؤالك لامس جرحاً عميقاً يا أحمد، فما من كاتب إلا وسأل نفسه هذا السؤال: لماذا أكتب؟ وكيف كانت إجاباتهم يا جدي؟ إنهم يا حفيدي كالقابضين على الجمر، يحترقون ليضيئوا الطريق أمام غيرهم. يقول الحفيد: اشرح لي أكثر يا جدي.. واضرب أمثلة. يقول الجد: حسناً.. خذ بيدي واقرأ معي ما كتبه الدكتور جابر عصفور، وهو يتساءل: لماذا أكتب ولماذا احترف الكتابة، ولماذا أصر عليها، ولماذا أشعر أنها حال وجودي وسر حضوري؟.. عادة ما تأتيني هذه الأسئلة عندما يعتريني مزاج رمادي، وأسأل نفسي عن سر ما أفعل، ولماذا استمر بدلاً من أن أريح نفسي من هذا الداء الذي اسمه الكتابة.
"أسئلة منطقية يا جدي فماذا كانت إجاباته"، يقول الحفيد. يقلب الجد صفحةً من الكتاب، ويقرأ لأحمد: "أنا أكتب لأحرر نفسي من القيود، وأساعد غيري على الوعي الذي يفتح له أبواب حريته، ولا أتوقف عن الكتابة لأني أريد أن أسهم في القضاء على الظلم والاستبداد والفساد، وأكتب لأن الواقع الذي أعيش فيه لا يعجبني، وأرفض ما شاع من غياب للعدالة الاجتماعية، والحرية والتقدم، مقابل تسلط التطرف الديني والقمع الاجتماعي، وأكتب لأني لا أزال أحلم وأصر على أن استبدل الحلم بالكابوس.. فالحلم جنين الواقع ونوارة الزمن الآتي بالنجوم الوضاءة، وأكتب لكي تكون حفيدتي في عالم أفضل من العالم الذي أحيا فيه.
أكتب لأشعر بمعنى الجمال، واستمتع بفعل الكتابة، وأعيد بناء المعطيات بعد تفكيكها، وأحلم أن تصل كتاباتي إلى أكبر عدد من الناس، وأن تحثهم على مقاومة كل صور القبح والشر والظلم في العالم مؤمناً أن الكتابة فعلُ مواجهة ورفض لكل ما يسهم في تشويه العالم، ولذلك أشعر أن الكتابة هي روحي وجودي وسر حضوري ونعيمي وعذابي في آن".

نزار قباني: الكتابة انفجار
يخلع الجَدّ نظارته ويضعها على إحدى الطاولات، ويقول لحفيده: عرفت كم يعاني الكاتب، ولماذا يكتب؟ يمسك أحمد بقارورة الماء، ويشرب ويقول: زدني يا جدي، واروِ ظمأ معرفتي. يتصفح الجد أحد دواوين الشاعر السوري نزار قباني، ويقرأ قصيدته المشهورة "أكتب" التي يقول فيها: "أكتبُ كي أفجر الأشياء؛ فالكتابة انفجار.. أكتبُ كي ينتصر الضوء على العتمة؛ فالقصيدة انتصار.. كي أنقذ العالم من أضراس هولاكو.. ومن حكم الميليشيات، ومن جنون قائد العصابة. أكتبُ كي أنقذ النساء من أقبية الطغاة. أكتبُ كي أنقذ الكلمة من محاكم التفتيش، من شمشمة الكلاب، ومن مشانق الرقابة. لا شيء يحمينا من الموت سوى المرأة والكتابة".

بين الكاتب والكويتب
يتمشيان الجد والحفيد بين أروقة المكتبة، فيبادر الأول بالقول:  نحن يا أحمد في زمن زادت السفاهة والتفاهة، واختلط فيه الكاتب بالكويتب، وشاعت أفكار الخرافات والتسطيح، بعد انحدار الوعي، وإشاعة دعاة التطرف أفكارهم، وأمام كل ذلك قد يمر الكاتب بمرحلة من اليأس، ويسأل نفسه: ما جدوى الكتابة في عالم لا يأبه بها، ولا يلتفت إلى أهميتها، ويتجاهل ما أكتبه؟ وهذا أمر طبيعي، ثم يعود إلى غوايته المفضلة لنشر الوعي بين أفراد المجتمع، فللكتابة مفعول السحر، وهي الشيء الوحيد القادر على التعبير عما يختلج النفس، وما يموج المجتمع به من قضايا وأحداث.

نخبة الغرب
يتوقف أحمد أمام الكتب المترجمة، ويقول: ولكن يا جدي هذا حال الكُتّاب العرب؛ فما هو حال نظرائهم في الغرب من الكتابة ولماذا يكتبون؟ يتنهد الجد، ويقول: الكتابة يا حفيدي متعة حياة الكاتب وسبب وجوده ومصيره الأبدي وسأقطف لك من بستان المؤلفين الغرب زهرةً من أقوالهم عن الكتابة. فمثلاً أنطون تشيخوف، الطبيب الذي أصبح من أعظم الأدباء في الأدب الإنساني يقول: "إن الطب هو زوجتي والأدب حبيبتي"، وذكر الكاتب البريطاني، جورج أورويل، بأنه قرر منذ أن كان طفلاً بأنه سيصبح كاتباً، ويُحدد أورويل أربعة دوافع للكتابة، هي: حب الذات، والحماس الجمالي، ثم الحافز التاريخي والهدف السياسي، ويضيف: "أكثر ما رغبت به هو أن أجعل من الكتابة السياسية فناً".
وحينما سُئل الأديب والكاتب التركي أورهان باموك الفائز بجائزة نوبل في الآداب لماذا تكتب؟، قال ببساطة: "أكتب لأن تلك رغبتي، أكتب لأنني لا أقدر على القيام بشيء آخر غير الكتابة، أكتب كي أشير أو أناقش بعض الآراء التي وردت في كتبي، أكتب لأنني غاضب منكم جميعاً، من العالم كله. أكتب لأنه يروق لي أن أنزوي في غرفتي اليوم كله. أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها، أكتب حتى يعرف العالم أجمع أي حياة عشنا، وأي حياة نعيش، أكتب لأنني أحب رائحة الورق والحبر، أكتب لأنني أؤمن فوق ما أؤمن به، بالآداب وبفن الرواية، أكتب لأن الكتابة عادة وشغف".


يباغت الجد حفيده، ويسأله عن مشروع تخرجه من الجامعة: "أريد أن أكتب عن كل من كتبوا للإنسان والحياة والجمال، وكل من ذكرتهم في حديثنا الشيق"، يقول أحمد، ويضيف: "سأتتبع نشأتهم وتطورهم الدراسي في فيلم تسجيلي سيكون بعنوان "القابضون على جمّر الكتابة.. غواية حد الاحتراق" وسيسجل هنا في مكتبة الشارقة، وبصوتك الإذاعي الدافئ يا جدي".
 

Email