دور الحمل في الوقاية من السرطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

لطالما تساءل الإنسان منذ القدم، عن السر الكامن وراء عملية الحمل والحكمة من أطوارها المتعددة ومراحلها المختلفة والمصحوبة بالتغيرات الجسدية والنفسية المتنوعة والصعوبات والإشكالات المحتملة والآثار الناتجة عنها.

ولقد ظل الإنسان يبحث عن الأسباب والظواهر والكيفية التي تجري بها هذه العملية والأشكال المتبعة في فسيولوجيتها المعقدة، حيث تتفاعل وتتداخل معظم أجهزة الجسم ووظائفها المتعددة بأساليب بالغة الدقة والتناسق والانسجام وأنماط متناهية الإبداع والإعجاز لتحقق الهدف المنشود والأخير: الولادة الطبيعية بالصورة السليمة وعلى الوجه الصحيح في الطريق الأمثل.

وانسجاماً مع البحث الدؤوب من قبل الأوساط العلمية والطبية لاكتشاف المعالم المتشابكة والآثار المتعددة للحمل ومراحله وأطواره المختلفة، ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات وأبحاث تناولت موضوع العلاقة بين الحمل والوقاية من السرطان عند النساء وخاصة سرطان المبيض وسرطان الثدي وسرطان بطانة الرحم والتي تمثل أهم أنواع السرطان الخاصة بالنساء وأعلاها نسبة فيها وأكثرها فتكاً.

وأظهرت النتائج معلومات دامغة وبراهين ساطعة أثارت دهشة الباحثين في هذا المجال حيث تبين وبشكل قاطع أن الحمل ولأسباب مختلفة وبطرق متنوعة، يقي من أخبث أنواع السرطان عند النساء ويساهم بشكل فعال في تقليص خطر الإصابة بها.

الحمل والوقاية من السرطان: دراسات وإحصائيات ونتائج مدهشة

أجمعت الدراسات على أن أهم عوامل الوقاية من أخطر وأكثر أنواع السرطان عند النساء في العالم وهي سرطان المبيض وسرطان الثدي وسرطان بطانة الرحم، تكمن في بلوغ الاكتمال الفسيولوجي الطبيعي المتمثل في التفاعلات الهرمونية للحمل والتعرض لآثارها الخصبة ونتائجها الإيجابية المتعددة الأوجه والمتشابكة ببعضها البعض.

ولقد ثبت مؤخرا أن أحد أهم هذه التفاعلات الطبيعية وأكثرها جلاء هو ازدياد نسبة وكمية إفرازات هرمون «البروجسترون» الذي يساعد وبشكل فعال على تقليص الإصابة بسرطان المبيض والثدي وبطانة الرحم عبر أساليب وطرق مختلفة أهمها «تقض» و«إلغاء» مفاعيل ازدياد وتراكم إفرازات هرمون «الإستروجين» الذي يلقي بظله المريب خلف معظم أنواع السرطان عند النساء والعديد من الأمراض والإشكالات المتنوعة.

كما أظهرت الدراسات شروطاً وظروفاً وسنناً محتملة لاكتمال هذه العملية وبلوغ هدفها المنشود أهمها على الإطلاق عدم تأخير الحمل إلى سن متأخرة وعدم التعرض، خلال الحمل، لمسببات السرطان عند النساء كالتدخين الكحول والإفراط الغذائي والتي يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عكسية مأساوية تصيب المرأة الحامل وجنينها على السواء.

وفي هذا الصدد، برهنت الأبحاث والإحصائيات الأخيرة أن المرأة الحامل التي تتعرض لتأثيرات التدخين والكحول والإفراط الغذائي (بالأطعمة المشبعة بالدهون) تعرض جنينها الأنثى بالأخص للإصابة مستقبلا بسرطان الثدي بشكل شبه مؤكد ومحدد.

الحمل والوقاية من سرطان المبيض..... علاقة مباشرة وتصاعدية:

يعتبر سرطان المبيض، حاليا، أكثر أنواع السرطان عند النساء خبثا وأقلها احتمالا للشفاء وبالتالي أصعبها علاجا، ويكمن ذلك في عدم ظهور أعراض المرض إلا بعد تمكن الورم من السيطرة على المنطقة المصابة و«اجتياح» المناطق المحيطة ومن ثم «الزحف» السريع إلى مناطق أبعد فأبعد حتى يستحيل التمكن من استئصاله والإحاطة به للقضاء عليه.

يصيب هذا النوع من السرطان النساء في أعمار متقدمة، وعلى الأخص النساء اللواتي تجاوزن سن اليأس ولم يولد لهن ولد أو لم يرضعن في حياتهن لمدة سنة أو أكثر.

ولهذا يتكاثر هذا النوع بالتحديد وبشكل جلي في المجتمعات الغربية حيث تزداد بشكل مطرد نسب العانسات أو الممتنعات عن الحمل الطبيعي (والتي ستزداد أعدادهن خاصة بعد ظهور بدعة الأرحام المستأجرة وظاهرة أطفال الأنابيب وصرعة المستقبل الداهمة المعروفة بأطفال الاستنساخ) أو اللواتي يتأخر زواجهن أو حملهن إلى أعمار متقدمة.

أما المذهل في هذه العلاقة المباشرة بين الحمل والوقاية من سرطان المبيض فهو وجود ترابط تصاعدي إضافي حيث إن نسبة حدوث هذا الورم الخبيث تتدنى وتتقلص مع كل حمل إضافي يحدث بعد الحمل الأول.

فالنساء اللواتي يلدن ولداً واحداً تتناقص نسبة الإصابة بينهن 45% ثم تتدنى النسبة مع كل ولد إضافي بمقدار 15%.

الحمل والوقاية من سرطان الثدي.....علاقة مباشرة ولكن بشروط !:

يعتبر سرطان الثدي وعلى نطاق واسع أكثر الأورام الخبيثة نسبة وتكاثراً وفتكاً عند النساء بشكل عام فهو صاحب المركز الأول في سلم الأورام الخبيثة في أهم مناطق العالم وأكثرها تقدماً كالولابات المتحدة الأميركية وشمال أوروبا.

تتميز العلاقة بين الحمل وسرطان الثدي بوجود مستويات وشروط عدة أهمها:

ــ تدني الإصابة بالورم الخبيث إذا كان الحمل في سن غير متأخرة (ما قبل الثلاثين).

ــ تناقص نسبة الإصابة مع كل حمل جديد.

ــ هبوط نسبة الإصابة إلى أدنى المستويات في مجموعات النساء اللواتي يحملن قبل سن الثلاثين وينجبن عدة أولاد.

ــ الحمل المبكر يكسب النسيج الثديي مناعة قوية ضد تشكل الأورام ويمنحه «نضجاً» خلوياً دائما يحفظه على مر السنين من الإصابة بالسرطان، بشرط أن لا يكون هنالك عوامل وراثية مصاحبة أو تغيرات جينية طارئة.

ــ المرأة الحامل التي تسيئ إلى حملها بتناول الكحول أو بالتدخين أو بالإفراط الغذائي (ذي الأطعمة المشبعة بالدهون) تزيد من احتمال إصابة جنينها الأنثى بسرطان الثدي في المستقبل.

ــ يتميز الحمل الطبيعي بظهور إفراز متزايد لهرمون «الإستريول» الذي يتكون في الجنين وينتقل إلى الحامل ليسبب وقاية مذهلة من نشوء تغيرات سرطانية في خلايا نسيجها الثديي.

ــ تحمي الرضاعة الطبيعية الثدي من خطر السرطان وخاصة إذا كانت المدة أكثر من ستة أشهر وحتى لو كان هناك عامل وراثي قوي في العائلة.

الحمل والوقاية من سرطان بطانة الرحم.......علاقة قوية ومترابطة إلى أقصى حد:

يطلق في الغرب على هذا النوع من السرطان النسائي لقب «سرطان الراهبات» لتكاثره في مجموعات النسوة اللواتي يمتنعن عن الزواج لسبب أو لآخر، بالمقارنة مع سرطان عنق الرحم الذي يطلق عليه لقب «سرطان بائعات الهوى» لإصابته النساء «المتعددات الشركاء» واللواتي يتعرضن للالتهابات الفيروسية المتناقلة جنسياً.

يصيب هذا النوع من السرطان النساء المتقدمات في السن واللواتي لم يتزوجن أو لم يلدن أو تعرضن لعوامل إضافية أخرى كالسمنة المفرطة أو داء السكري أو تناول هرمون الإستروجين(من دون الهرمون «المعاكس» أو المضاد: البروجسترون).

الحمل: معجزة الخلق ومنحة الخالق

أجرى الله تعالى الأمور بأسبابها وأخضع الأشياء لقوانين وسنن وشرائع ومبادئ وجعل حكمته ولطفه ورحمته فيها لتظهر في مكنوناتها ونتائجها وآثارها فيهتدي المهتدون ويعتبر أولو الألباب والعالمون.

وكان الحمل كغيره من الظواهر الخلقية الفطرية الأصيلة، أحد مصاديق هذه الحكمة الربانية المتناهية اللطف والإعجاز وأحد براهين الرحمة الإلهية المستديمة والتي تنطق بمكنوناتها وأسرارها كلما تقدم علم ما أو ظهر أثر ما أو استجد حدث ما.

ولطالما تساءل الإنسان عن سر الحمل وماهية أسبابه والحكمة من زمنه المحدد وكيفيته المحددة ونمطيته المحددة، ولطالما فكر وتفكر في إيجاد بدائل محتملة وأساليب مغايرة تسهل له التوالد والتكاثر على ذوقه وكيفما يحب وعندما يحب بعيدا عما يعتقده هو من تعب وألم ومشقة، متغافلاً عما أودعه الخالق في كل شيء خلقه من منح وهبات وهدايا تنفتح نعماً دائمة لتخلص الإنسان من أخطار ظاهرة وباطنة ومصاعب معروفة وغير معروفة، حسب تقدم الإدراك الإنساني وتطور فهمه لأسرار الأشياء والظواهر على مر العصور والأزمنة.

استشاري أمراض الأنسجة والخلايا ورئيس شعبة في هيئة الصحة، حكومة دبي.

Email