الدماغ البشري.. النعمة الكبرى

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

دأب الفلاسفة وعلماء الطب وعلماء الطبيعة منذ زمن بعيد، على محاولة فهم الدماغ البشري وتحليل نشاطاته المعقدة والدخول إلى عوالمه المجهولة لدراسة ما يمكن كشفه من أسرار وظواهر ومعالم تتعلق بالفكر والتفكير والتعلم والتعليم والذاكرة والتذكر والإدراك والتمييز والعواطف والأحاسيس وغيرها من النشاطات الفكرية والذهنية، ولكنهم سلّموا على مرّ السنين بصعوبة المهمة وأدركوا أن على الإنسان أن يبلغ أشواطاً كبيرة في العلم والمعرفة والتطور وأن يرتقي إلى درجات عالية من الحسّ العلمي المتقدم والتجربة العقلية الدقيقة والمراقبة الذهنية الحثيثة قبل الوصول إلى سرب أغوار هذا الكهف الحصين.

وهكذا، رغم التقدم العلمي الهائل في العلوم الطبية والطبيعية لم يتمكن العلماء المختصون والباحثون في عوالم الدماغ البشري من فك العقد والألغاز من حول أهم مسارات هذا الجهاز الغريب وتحليل رموزه المتشابكة وشيفراته المتراصة، كما لم يجرؤ أحد إلى الآن على الادعاء باكتشاف تحديد أغلب وظائف الدماغ المعقدة وتحليل أهم العمليات الوظيفية التي تقوم بها خلاياه العصبية المتشابكة وفهم رموزها الصعبة وأسرارها المجهولة.

ولقد أجمع العلماء العاملون في هذا المجال وعلى مرّ العصور والأيام على صعوبة الإحاطة بقدرات وطاقات وعمليات هذا العضو العجيب والتمكن من كشف واكتشاف أسراره كلها لأنها شديدة التعقيد والفرادة ولا تشبه في ذلك أية خصائص لأي عضو آخر.

لكل جزء من الدماغ سلسلة متعددة من الوظائف المحددة، ولكل مجموعة من الخلايا العصبية التي تعمل في منطقة معينة منه مجموعة من الوظائف الخاصة، ولكل منطقة من مناطق الدماغ مراكز متخصصة لها مسؤوليات ومهمات محددة، ويعمل الكل بمجموعه المتجانس في بوتقة واحدة وبدقة فائقة ويؤدي الكل بأجزائه المتشابكة واجباته المبرمجة بشكل متكامل وبترابط تام وتنسيق خارق وانسجام يثير الدهشة والذهول.

ويعتقد العلماء والباحثون في مجالات وعلوم أنسجة الدماغ وخلاياه أن قشرة الدماغ الخارجية هي المسؤولة عن تصدير الشحنات الكهربائية الخاصة بنقل المعلومات المتبادلة في «تخاطب» الخلايا العصبية المتواصل دائماً، ليلاً ونهاراً.

أما أغرب ما في الموضوع هو استحالة وجود دماغين بشريين متشابهين بشكل كامل وصحيح ومن دون فروقات صغيرة أو كبيرة في الحجم والتركيب والشكل وكأن هناك «هيئة حصرية» في كل دماغ تمتنع عن التشابه والتقليد والمحاكاة والتطابق لتزيد هذه الخاصية العجيبة من عظمة الأمر وفرادة الموضوع وغرابة ودقة هذا «الحاسوب الخارق» الذي لا يحاكيه شيء آخر ولا تنطبق عليه الشروط ولا المواصفات ولا الضوابط المادية المعروفة علمياً حتى يومنا هذا.

يتألف النسيج الدماغي من عدة مليارات من الخلايا العصبية التي «تتواصل» و«تتخاطب» معلوماتياً، فيما بينها، ليلاً ونهاراً وفي اليقظة والمنام ومن دون توقف وبشكل منظم ومتوازن وغير محسوس، عبر شحنات كهربائية متبادلة شديدة الدقة والتعقيد على السواء.

ويتحكم الدماغ عبر خلاياه العصبية المتصلة بخلايا الشبكة العصبية المكونة من الحبل الشوكي والأعصاب الطرفية (الحركية والحسية)، بالحركات الإرادية (كعضلات الأطراف) والحركات اللاإرادية (كالجهاز التنفسي والجهاز الهضمي وجهاز القلب والدورة الدموية) والحواس (كاللمس والسمع والشم والرؤية والتذوق) وبالتفكير والعواطف والذاكرة.

تقوم الشبكة الخلوية العصبية بتنظيم عملياتها بشكل محكم وموزون وتنتقل الشحنات الكهربائية عبر الألياف العصبية بشكل لا يناقض بعضها البعض أو ينافس بعضها الآخر وعبر مسارات مبرمجة بطريقة تحليلية تلقائية لا تحتاج إلى مساعدة أو إشراف أو صيانة أو تدريب أو تعليم من قبل أي جهاز آخر بل تنساب وتتنقل من مرحلة إلى أخرى ومن وظيفة إلى أخرى من دون أن تتوقف أو تتأخر أو تتصادم ببعضها البعض!

أما في موضوع الوظائف والمهام الوظيفية للدماغ البشري فقد عجز العلماء عن معرفة الكيفية التي يتم بها تحفيزها وتشغيلها وتنظيمها وضبطها ضمن منظومة متوازنة شاملة تتكيف مع الظروف الزمنية والمكانية ولا تحتاج إلى تفعيل أو تغذية أو توزيع مستمر. وأكثر ما يبهر العلماء ويحيّرهم هو كيف يمكن فهم ما يقوم به الدماغ البشري من مهام نشاطات ذهنية وشعورية، بطريقة رياضية بحتة أو على أسس بيولوجية مجردة أو ضمن تفسيرات فيزيو- كيميائية واضحة.

ولقد ظهرت علامات الذهول والحيرة العقلية التجريبية والتجريدية خصوصاً حينما حاول العلماء استشراف مسارات وآفاق النشاطات الدماغية المدهشة التي لفتت أنظار عقولهم، ومن هذه الأمور والعوامل ما يلي:

- ضبط الشحن الكهربائي في الخلايا والألياف العصبية وتحفيزه ضمن معايير مبرمجة لاإرادياً وفي شتى الظروف بطريقة موزونة ودقيقة.

- تلقين المعلومات موضعياً ثم إيصالها أو تبادلها أو تخزينها أو إهمالها تلقائياً من دون وسائط محسوسة ومن دون محطات أو شروط مسبقة.

- كيفية التحكم بالرسائل الشعورية والأحاسيس وكيفية السيطرة على الألم والضبط التلقائي لردّات الفعل العصبية من دون تلقين أو تدريب.

- كيفية تشغيل النظم الدماغية للإنذار المبكر عند وقوع الأخطار أو حتى قبل حصولها.

- تحديد الأحداث وتفسير تسلسلها وتقييم احتمالاتها الإيجابية والسلبية وكيفية التمييز بين معاني الإشارات اللغوية ونبراتها المختلفة.

- تخزين الذكريات وتوزيعها على مراحل قريبة وبعيدة زمنياً وضبط عمليات محوها أو توظيفها في حالات طارئة.

كرّم الله الإنسان وخلقه بأحسن تقويم وعهد إليه بالمسؤولية والأمانة والعبادة والتفكر والتدبّر في خلقه وفي الآفاق من حوله وسهّل له مهماته بتكريمه ورفعه فوق مستوى جميع المخلوقات بكل أصنافها وتلاوينها، وبرز في هذا المضمار تميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات بحيازته، في أشرف مكان في جسده، لــ«حاسوب» حيوي خارق متعدد الوظائف والمهام والمسؤوليات وذاتي النشاط وتلقائي الحركة ومتواصل الخدمة ليلاً ونهاراً من دون شروط ولا فروض ولا واجبات، به يرصد وبه يتفاعل وبه يتعلم وبه يحّلل وبه يتطور، وبه يرتقي إلى المعالي!

استشاري ورئيس شعبة أمراض الأنسجة والخلايا بمستشفى دبي

Email