دروب الإمارات

حتــــا جـــوهــــرة جبــــــال دبي وكنزها المدّخر

IMG_8309

ت + ت - الحجم الطبيعي

نذهب عميقاً في دروب الخير والوفاء للوطن وإنسانه.. نتجول في ربوع البلاد بحثاً عن منابع التميز، عن إمارات الرضا والسعادة، في عيون الأطفال والكهول.. نلتمس مكنونات هذا الشعب الكريم، في قراه البعيدة وبواديه وضواحيه.

حيث النقاء والأصالة، نقف على آثار الماضي ونمط العيش الجديد، لنشهد كيف حدث ويحدث التحول التاريخي العظيم من حياة البساطة إلى حياة الرفاه والمعاصرة، دون خسران للهوية الغالية. «البيان» في هذه السلسلة تجالس الناس، تستعرض طواياهم الجميلة، تقاسمهم الماء والخبز والذكريات.

حينما خرجنا إلى «دروب الإمارات» صباح التاسع من نوفمبر2017م نريد مدينة حتا التابعة لإمارة دبي، كانت تحدونا إليها المشاريع التنموية المدهشة التي وعد بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وسموه من إذا قال فعل.

لذا أردنا أن نسبق التحول الشامل في سيرة المكان ومكنوناته، القديمة بالذات، لنوثق الذاكرة المتوارثة قبل أن تصبح البلدة في عداد المدن الكبرى قريباً.

يومها حللنا ضيوفاً على الأودية والجبال الشماء، وهنالك استقبلنا «بو سيف» عبد الله خلفان محمد البدواوي، السبعيني هادئ الطبع في مزرعته المزدانة بنباتات الفندال والقرع والليمون والهمبة والعنب، هنا يربي البوش والأغنام، ويطير حمام ويحط حمام على أغصان السمر والسدر، كان مشهد الجبل الضخم المطل بعنفوانه يضفي هيبة وجلالاً على المكان المستظل بالغيوم.. فنحن في شتاء الإمارات الجميل.

وجدنا في فناء المزرعة «عسو» تحت جذع غافة، قال مضيفنا «بوسيف» إنها أداة تقليدية لكنس النفايات في الزمان الأول، والعسو يصنع من مشتقات النخلة، ويستخدم أيضاً في تأديب الأطفال قديماً.

المدينة القديمة

يؤكد عبد الله خلفان البدواوي أن المدينة تحولت من مكانها القديم الذي يقع على مسافة 4 كليومترات، من جراء ضيق المكان واتساع عدد السكان، ولقد كانت البيوت عبارة عن خيام وعرشان تعتمد على جريد النخل وأغصان السدر والسمر، ومساحات الحيشان كانت ضيقة، لذلك كانت المساحة المحدودة كافية لجمع عدد كبير من السكان والبيوت، الأمر الذي خلق نوعاً فريداً من الترابط الاجتماعي.

وكأن كل الأسرة تسكن في حوش واحد كبير ومقسم فيما بينهم، والحياة كانت بسيطة، الناس يعتمدون في غذائهم على «أقراص الذرة البيضاء الرفيعة» والبر.

ويضرب مضيفنا مثلاً على وحدة النسيج الاجتماعي بالقول إن الرجل كان إذا تقلب في فراشه ليلاً فذكر ربه: لا إله إلا الله، كان جاره يسمعه فيستيقظ ويردد وراءه كلمة التوحيد لينتقل الأمر إلى الجار التالي فالتالي وهكذا حتى تتجاوب القرية عن بكرة أبيها طول ليلها وهم نيام فما بالك بحالهم في اليقظة.

خير وفير

كانت حتا قديماً مصدراً مهماً لإنتاج القمح والذرة والدخن والغليون «التبغ» والرويد والبصل والثوم والحمضيات، ولقد رأيت حمولات متتابعة تخرج يوميا من هنا إلى أسواق دبي وغيرها خلال منتصف القرن العشرين.. هكذا يؤكد بوسيف.

ويمضي قائلاً: أذكر أن أول بيت شعبي بني بالمواد الثابتة ظهر في حتا عام 1969م. والآن حتا مدينة جميلة وهادئة بفضل الله تعالى وبجهود قيادتنا الرشيدة، وفي هذا المقام يجب أن أشيد برؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وبخطته لتعزيز مكانة حتا وتطويرها حتى تصبح قبلة للأنظار فهذا شرف لنا.

وهو جزء من مكرماته الكثيرة ونظرته البعيدة لصالح الوطن والمواطن. فنحن الآن لا نحتاج لأي شيء جزاهم الله عنا كل خير، المواطن هنا مرتاح وكل أسباب الحياة الكريمة المريحة موفرة له، من طرق وبيوت ومشافٍ ومراكز تسوق ومدارس وبنوك ومصادر دخل.

ميزات حتا

حينما سألنا بوسيف عما يميز أهل حتا قال: شعب الإمارات واحد في عاداته وتقاليده وهويته، ولكن بالطبع هنالك خصوصية لأهل الجبال والوديان تميزهم عن بيئة الصحراء وأهل البحر، فنحن أهل زراعة كما قلنا، نحسب أيامنا بالدرور «الدُر عشرة أيام»، نحن قبيلة البدواوية، نعيش هنا بشكل أساسي ويسكن جزء منا في مصفوت المجاورة وفي الخضراوين الواقعة في سلطنة عمان.

ونعتمد على الزراعة وتربية الدبش «الأغنام»، وبالتالي فقد كنا دائماً نعيش حياة مستقرة مرتبطة بالأرض والماء والخضرة، عكس من كان يكدّون في البحر بحثاً عن اللؤلؤ أو صيداً للأسماك أو يترحلون في بوادي البر بحثاً عن مراعي الكلأ والماء، وهذا الاستقرار بالطبع له انعكاسه على طبيعة الحياة والعلاقات كما أن للجبل دوره كذلك في حياتنا.

فنون زراعية

يحدثنا «بوسيف» عن فنون الزراعة في حتا بحكم تجاربه وإرث أهله البدواوية فيقول: للمزرعة خمسة مكونات هي:

• الوعب: وهو مكان محدود يحرث للزراعة، ويقاس بالجلبة «الحوض».

• السابة: شريحة طولية بمحاذاة الفلج تضم أحواض المزروعات.

• البدعة: الجزء المنخفض طبيعياً من أرض الوعب.

• المكسور: هو الوعب المقسم إلى 21 جلبة.

• الشرخة: جانب من المزرعة يفصله طريق ضيق يشق الجلبات.

وينتقل الحديث إلى الدورة الزراعية في المزرعة ذاتها فيقول: البر أو القمح هو آخر محصول يزرع على مدار العام، إذ يزرع في فبراير ويحصد في أبريل، يسبقه محصول الدخن، وأما الذرة الرفيعة فتزرع في سبتمبر وتحصد في مثل هذه الأيام من نوفمبر، ثم يأتي موسم زراعة التبغ الذي نسميه في الإمارات «الغليون»، علماً بأن كل محصول يحتاج إلى أربعة أشهر لكي تكتمل دورته.

علاقات الإنتاج

يقول بوسيف: حتى بداية الثمانينات من القرن العشرين كانت الزراعة تقوم على علاقة إجارة «بيدرة» بين مالك الأرض «الهنقري» والفلاح الأجير ويسمى«البيدار» على أن يحصل الأخير على خمس ريع الأرض نظير فلاحته للأرض ورعايته للنباتات حتى اكتمال الحصاد.

هنا يتدخل أحمد محمد سعيد الهاشمي ليضيف: كان عامة الناس يتعاونون على الزراعة والحصاد. ففي حالة الزراعة يجتمع كل أهل الفريج لمعاونة صاحب الوعب، فيقوم أحدهم بعملية قلع النبات من جذوره، لتقوم النساء بعملية قطف سنابل الذرة من سيقانها، وأما الصبيان فيقومون بتحميل السنابل على الحمير ونقلها إلى ساحة دائرية الشكل مبلطة بالمدر، تسمى «الينور» .

حيث تركم السنابل لتجف ثم تضرب بالعصي الغليظة حتى يتم فصل البقول من السبوس «النخالة»، وهنا يكال المحصول ويوزن تخرج زكاته، ويعطى الأجير«البيدار» خمسه في هذه المرحلة ولا ينسى الفقير لكي تنزل البركات.

الوسم بالنار

كان الناس في حتا قديما يتداوون بالأعشاب وأحيانا بالكي أو الوسم الذي يحمى لأجله قضيب من الحديد حتى يحمر بالنار ثم يوضع بطريقة معينة على موضع العلاج حسب خبرة البصير المعالج.

وآلة الوسم «الميسم» لها طرفان أحدهما مقوس ويسمى المخباط والجانب الآخر مستقيم ويدعى الرزة. ولكل طرف استخدام حسب الحاجة. وقد قدم لنا مضيفنا «بوسيف» تجربة عملية لعملية الوسم تطوع لها المواطن سعيد جمعة الكعبي بعد أن أوقدت النار «الضو» بالطريقة التقليدية وباستخدام الخشب استحضاراً للماضي بحذافيره.

وريث التراث

محمد عبد الله خلفان البدواوي، هو من أشرف على إكرامنا، نحن فريق دروب الإمارات ونفر من أهل حتا تمت دعوتهم على شرف زيارتنا، فقام الشاب محمد بتهيئة المكان داخل مجلس في المزرعة نيابة عن والده بوسيف الذي التحق بنا بعد الصلاة في المسجد، ومحمد البدواوي موظف في مركز البلدية في حتا، هوايته الزراعة كأبيه ولكنه يحب أيضا جمع الحطب من الجبل والغابة، خاصة السمر والسدر.

ويستخدم ذلك لـ«الشوي» ولإشعال نار التنور، يقول إن جبال حتا التي نجمع منها الحطب عديدة منها: جبل اليمح وجبل الحدة، كما نجمع الحطب من وادي جيما، ووادي الحتاوي الكبير الذي يقع خلف سد حتا الشهير. ويضيف محمد عبد الله البدواوي: والدي يحبذ زراعة النخل والخضروات، وأما أنا فأميل إلى الاهتمام بالحمضيات كالسفرجل والهمبة والليمون والرمان كما أهتم بالجوافة «نسميها الزيتون».

«الصد»

علي محمد الكعبي، مواطن يستحق أن نطلق عليه لقب صديق ونصير «دروب الإمارات» حيث هيأ لنا عدة زيارات ونسق مع المعنيين، وبالغ في إكرامنا، وهذه المرة أصر علي الكعبي على اصطحابنا إلى بيته في «مزيرع» قبل أن يوصلنا إلى حتا القريبة.

وفي مجلس الكعبي تلقينا إكراماً أنسانا عناء الرحلة ووعثاء السفر، وكان سالم الكعبي شقيق علي جليسنا ليحدثنا عن نوع مميز من الصيد خارج البحر وعن أعشاب المنطقة ونباتاتها، فقال:

سمك «الصد» صغير الحجم، يعيش في وديان في مزيرع ومصفوت وحتا، ويتم صيده بطريقتين، الأولى هي عن طريق عشب «العيطمان» الذي يهرس ويغمر في ماء الوادي ويتسبب في تخدير الأسماك التي يتم انتشالها بسهولة من الماء، وأما الطريقة الثانية فهي باستخدام الجاروف وهو نوع من شباك الصيد تثبت بعمود من عيدان النخل على جانبين وهكذا يتم احتجاز الحصيلة التي يتم طهيها مع الطحين في شكل «قرص صد».

ثم حدثنا سالم عن أهمية شجيرة «التنوم» التي تستخدم لعلاج أمراض البطن والبواسير حيث تستخدم كتحاميل لها مفعول سريع.

ويتدخل صديقنا علي الكعبي ليحدثنا عن شجرة«الشوع» التي يستخلص منها زيت يستخدم قديما لأمراض الجلد والشعر.

وأما عشبة «الوبية» التي تنبت في جبال حتا فلها مفعول الحمض«الأسيد» ولذلك كانت تستعمل قديما لنزع الصوف حين يغمس جلد الأغنام في منقوعها ليلة كاملة.

وبعد هذه المعلومات جاءنا طبق لحم التنور اللذيذ، وذكر لنا علي الكعبي أن اللحم في هذه الحالة يطهى عن طريق دفنه داخل تنور أوقدت فيه نار الحطب، بعد وضع اللحم داخل جراب مضفور من سعف النخيل، ولذلك ليوم وليلة، ومهما يكن فقد ذقنا ذلك واستمتعنا وتطيبنا بدهن العود وخرجنا من مزيرع الجميلة إلى حتا هدفنا.

أما بعد

فلقد ذهبنا بأشواقنا لحتا فوجدنا جوهرة مختبئة بين الجبال والوديان، واكتشفنا أنها كانت عبر التاريخ كنزاً ثميناً من كنوز الطبيعة، واليوم ها هي قد باتت وعداً جميلاً ينتظر الوطن قدومه من المستقبل.. ثم خرجنا من الوديان والروابي ولايزال بالنفس شيء من حتا.

بورتريه

عبد الله خلفان محمد البدواوي «بوسيف»، تزوج مرتين، الأولى عام 1969م والثانية في 1974م. عمل في شرطة دبي في نفس سنة زواجه الأولى، لمدة عام واحد، ثم انتقل ليعمل مع حرس الشيخ راشد بن حميد النعيمي لمدة سنة أخرى، يقول:

ثم التحقت بالجيش عام 1972م وبقيت في خدمته طول ست سنوات ونصف السنة، بعدها تحولت إلى سائق تاكسي ومزارع، وما لبثت أن عينت سائقاً في وزارة التربية عام 1981م وهنا بقيت أطول مدة وصلت إلى 22 عاماً تقاعدت بعدها.


* المدينة القديمة كانت على بعد 4 كيلومترات من «الراهنة»

* يزرعون «الفندال واليقطين والبر والهمبة ويربون الدبش»

* حمولات متتابعة من المنتجات تخرج يومياً من حتا إلى دبي

* عبد الله البدواوي: نثمن خطة محمد بن راشد لتحويل المدينة إلى قبلة أنظار

Email