«علينا أن نستدعي أحفاد لوريمر ليستطلعوا معاني العزيمة والإنجاز»

عن «سيمفونية خور دبي» التي لا تهدأ

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«فقط، أغمض عينيك، وأنصت. إنه يتحدث إليك، هل تسمع؟».

لم يكن سالم يهذي، بدا مأخوذاً إلى فضاءات بعيدة، أبعد من الحدود التي بوسع نوارس المغيب أن تصلها. كانت، في صخبها وهي ترفرف فوق ذيول المراكب، تصدر أصواتاً، تتداخل مع أخرى من هنا وهناك.

تلتحم كلّها، لكي تشكّل سيمفونية ساحرة، يعزف إيقاعاتها الناس والأشياء، الروائح والألوان، صوت الآذان وصيحات بائع الزهور في الزقاق المؤدي إلى المكان الخاص الذي يمارس فيه الهنود شعائرهم بسلام، فلاشات الصور الكثيرة التي تصدر عن هواتف السياح الصينيين الذين هبطوا لتوهم من الحافلة العملاقة، وضحكة ودودة لامرأة اسكندنافية ينظر إلى عينيها زوج محب، بفائض سعادة.

كرنفال ألوان

ثمة، في المكان، طفل يدور على «السكوتر» الخاصة به، في حلقة يدور فيها أيضاً الحمام الذي لا يجزع من حركة الناس، بل تلتقط مناقيره حبوباً وفيرة سكبها في الباحة محبو الطيور، فيما يمسح حمّال آسيوي عرقه ويغرق بعينين باسمتين، تثمنان قيمة العمل والرزق، في سوق القماش الذي، مثل كرنفال ألوان مستمر، لا يهدأ ولا يبهت.

هناك كاتب قصص يرتدي قبعة ويشرب «شاي الكرك»، ثم يدوّن على دفتره بضع ملاحظات، وهنالك مسنّة بغطاء رأس أبيض ناصع يشع كلؤلؤ، أقعدها الوهن على عربة بدولابين، يرافقها موظف «النقل البحري» إلى قلب القارب النظيف مع حنوّ كثير.. «السعادة للجميع ولا يحرم منها أي شخص في هذه المدينة»، تقول.

كلّهم هنا، يتنشقون كل الطاقة الإيجابية التي تغمر «حي الفهيدي» ومحط المراكب قرب السوق العتيقة، ويزفرونها فرحاً وأملاً بحياة أفضل. يعزفون لحناً واحداً، هذا المساء. يقول سالم، متأثراً «هل تسمع؟ إنها سيمفونية.. الخور»!

العزيمة والإنجاز

قصة سالم، الشاب الإماراتي الذي لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، هي قصة «خور دبي»، بل «دبي» نفسها. قصة سطرتها حروف العزيمة والإنجاز وتحدي الذات. ومثله، مثل آلاف من الإماراتيين الذين ولدوا وتربوا في دبي، يكن إلى «الخور» مشاعر خاصة: «أنا مهندس معماري، آتي كل يوم جمعة إلى هذا المكان، يلهمني بشكل كثيف، كما تلهمني رؤية قائد دبي الحديثة وباني نهضتها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله».

وعلى مدى مئات السنين، لطالما ألهم هذا المكان، بالفعل، كل المقتربين منه، بفنون العيش والتطور. وكان بمثابة الشريان الذي أينما تمدد وتدفق، ازدهرت الحياة ومظاهرها، وتكاثر البشر وتعمّر الحجر. في كتابه «خور دبي»، يشير محمد سلطان العويس إلى هذا الأمر بالقول «كان الخور في مدينة دبي بمثابة النهر لبعض المدن الأخرى التي يعبرها وينشر الخير فيها».

محط النوارس

سيمفونية النهر- الخور هذه، هي التي جذبت قبل أربعة آلاف سنة، بشر يمتهنون حرفة ركوب الأمواج على ألواح الخشب، والغوص إلى القيعان بحثاً عما يلمع. بوسعك أن تتخيلهم اليوم، وأنت تقرأ عن طاقم المهندسين العالميين المشغولين بتخطيط بناء أعلى صرح عمراني إنساني عرفه التاريخ، (متجاوزاً علو برج خليفة) على مياه الخور ذاته على مسافة كيلومترات من محط النوارس.

. تتخيلهم متشابهين: هؤلاء وأولئك عرفوا أن هذه البقعة من الأرض، تنضح بالخير والتسامح والأمان، لذلك فهي الأجدر دوماً بأن تحط «المعجزات» على أرضها.

وسواء حمل البناؤون قديماً على أكتافهم «عرشاً» (جذوع وسعف النخيل) أو جصاً أو حجارة بحرية كما في ستينيات القرن الماضي، أو حجارة وألواحاً معدنية وزجاجية رسم هندستها بدقة مهندسون وخبراء عالميون يعرفون كل شيء عن الطاقة المستدامة والأبنية صديقة البيئة والهندسة المتناغمة مع ثقافة المكان وتاريخه، كما في مشروع «خور دبي»، الذي أعلن عنه مؤخراً.. سواء اختلفت مواد البناء وأشكاله، فإن أمراً واحداً ثابتاً لا يتغير: تقدير شريان العطاء هذا، والعناية به، كي يضخ المزيد.

التحدي

على مدى التاريخ، كلما هبت نذور التحدي على مياه الخور، كلما كبر عطاؤه. فبينما اعتبرت دبي الميناء الخليجي الأول للمنطقة منذ العام 1903، وجذبت قوافل تجار الهند وفارس وساحل أفريقيا الشرقي، لشهرة أسواقها المخططة على ضفاف الخور لكيلومترات مديدة من ساحل الخليج، جاء اكتشاف اللؤلؤ الصناعي في الثلاثينيات لكي يهدد هذا الازدهار.

لكن أهل دبي، كما دأبهم، يعرفون جيداً كيف يجدون البديل: تجارة الذهب والسلع. ومرة جديدة على الضفاف وتحت أجنحة النوارس، عم الازدهار. وفي مرحلة لاحقة، حين كثر الطمي في قلب المجرى وهدد حركة القوارب، لم يستسلم آنذاك الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، المغفور له بإذن الله ، لفعل الطبيعة، بل أطلق مشروعه الأضخم على ساحل الخليج آنذاك..

وهو تجريف الحوض وتوسعته، وبدل أن تعلق القوارب في الطمي، وفدت بدلاً منها سفن تجارية عملاقة ذات غاطس بعمق ثماني أقدام.

«مع افتتاح الشيخ راشد جسر آل مكتوم الذي يربط بين ديرة وبر دبي في عام 1962، أعلنت بداية مرحلة جديدة من الحياة التجارية في المدينة.. وتغيرت حياة الناس الذين كانوا ينتظرون حركة الجزر لكي يعبروا بين الضفتين سيراً على الأقدام»، يقول المهندس رشاد بوخش، المدير التنفيذي لإدارة التراث العمراني والآثار، وهو من المتخصصين في تأريخ الإرث الحضاري لخور دبي والمناطق المحيطة به.

معجزة ونوتة

جسر «آل مكتوم» بوسعنا أن نعتبره، بمثابة أول «نوتة» موسيقية في «كونشيرتو» الجسور ضمن «سيمفونية الخور». بعدها، دونت «نوتات» كثيرة ومهيبة مثل نفق الشندغة وجسر القرهود ومعبر الخليج التجاري والجسر العائم..

في كتابه «دليل الخليج» الصادر عام 1908، يصف ضابط البحرية الإنجليزي ج.ج لوريمر، ابن مدينة غالاكسو، «خور دبي» والمنطقة المحيطة به بأنها «دروب سكيك مظلمة، تتكدس فيها البضائع، ويحتاج المرء إلى أن يحمل قناديل الزيت المشتعل لكي يثبت خطواته فيها».

يضحك سالم معلقاً: «علينا أن نرسل تذاكر طائرات مجانية إلى أحفاد السيد لوريمر اليوم، ليأتوا إلى هنا ويكتبوا نسخة جديدة من الكتاب، حول معجزة الخور التي تشرق كل يوم على ضفافه أضخم إنجازات البشر وأحلامهم».

Email