سبيلبرغ يبني منصات فنية في «جسر الجواسيس»

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«جسر الجواسيس» أو «جسر من الجواسيس» أو «جواسيس الجسر» أو «جواسيس على الجسر»، كلها عناوين دقيقة للفيلم الجديد للمخرج الأميركي المخضرم ستيفن سبيلبرغ، الذي لم يتراجع مستواه قط منذ سبعينيات القرن الماضي.

الفيلم المستوحى من أحداث حقيقية، ويبدو كأنه من روايات جون لو كاري مؤلف قصص الجاسوسية البريطاني الشهير، يعود بنا إلى عام 1957 والحرب الباردة في بداياتها بين القوتين العظميين في العالم آنذاك، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي.

تجسس

جيم دونوفان (توم هانكس في رابع تعاون له مع سبيلبرغ) محامي تأمين بارع في عمله (كما نفهم من خلال حواراته)، تطلب الحكومة الأميركية منه التدخل للمرافعة عن رودولف أيبل (مارك ريلانس)، المتهم بالتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي. يتردد دونوفان في البداية، كونه لم يمارس الشق الجنائي من المحاماة منذ فترة طويلة، لكنه يرضخ للضغوطات، لأسباب تتعلق بالدعاية السياسية لبلده (بروباغاندا).

يفشل دونوفان في دفاعه، رغم كثرة الثغرات القانونية في أطروحة الادعاء، بسبب التحيز الأعمى للدولة (بما في ذلك اصطفاف القاضي والمحلفين والرأي العام ككتلة واحدة)، لصالح شنق الجاسوس أيبل.

بعد نظر

لكن محامينا ذكي، ويتمتع ببعد نظر، فيطلب من القاضي أن يخفف الحكم من الإعدام إلى المؤبد، ويحصل على طلبه. في مكان آخر، تجري قصة موازية تلمح كثيراً لما سيأتي بعدها من أحداث.

تختار وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي آي إيه، مجموعة من الطيارين للتحليق فوق ألمانيا الشرقية الدائرة في الفلك السوفييتي، والتقاط بعض الصور لأماكن حساسة، تبدأ المهمة، وكما هو متوقع، تسقط الدفاعات الألمانية طائرة، ويقع طيار أميركي يدعى فرانسز غاري باورز (أوستن ستويل) في الأسر.

بداية

إذاً، هنا يبدأ الفيلم، عندما تطلب الحكومة الأميركية مرة أخرى من دونوفان التدخل والذهاب إلى برلين الشرقية، عاصمة ما يعرف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك، للتفاوض على تبادل الجواسيس: أيبل مقابل باورز، وسنكتفي بهذا القدر من السرد، حتى لا نفسد عليكم متعة المشاهدة.

لدينا فيلم مقسم إلى جزئين، الأول دراما قانونية، والثاني دراما تشويقية سياسية، والاثنان يندرجان تحت خانة السيرة الذاتية لجيم دونوفان، كونه قصة حقيقية. في الوقت نفسه، لدينا فيلم (ومن خلال أداء توم هانكس)، من الممكن كذلك أن يدرج ضمن أفلام دراسة سلوك الشخصيات، والفضل في ذلك يعود لحنكة الشقيقين إيثان وجويل كوين في كتابة النص، وهما الشهيران بهذه النوعية من الأفلام.

الفيلم بمجمله عن رجل عادي، يواجه تحديات شاقة، لكنها لا تثنيه عن تحقيق أهدافه، وهذا الموضوع متكرر في أفلام سبيلبرغ، وشاهدناه من قبل في التعاون الثالث بين الأول وهانكس في فيلم The Terminal عام 2004.

فطنة

القصة ليست أقوى عنصر في الفيلم، لأننا نستطيع توقع أحداثها، فالمخرج سبيلبرغ يطلق تلميحاته الذكية من بعد الساعة الأولى، وعلى المشاهد أن يربط الأحداث بنفسه. وهنا تكمن فطنة هذا المخرج، الذي يعلم كيف يعزز مواطن الضعف، والنتيجة أن المشاهد يتوقع الأحداث، لكنه لا يشعر بالملل أثناء المشاهدة. سبيلبرغ كذلك وضع فيلمه في إطار فني متكامل، فعنوان الفيلم هو فكرته، وهو أحداثه..

وهو مكان وقوع الأحداث، وهو المعنى المجازي لكل ما يحصل للشخصيات في الفيلم، وكأننا نشاهد فناناً يرسم لوحة مكتملة العناصر، ونحن، المشاهدين، نتأمل في إبداعاته وكيفية ربطه كل عناصرها بصورة متقنة.

جسور

فمثلاً «جسر الجواسيس»، تعني رحلة المحامي دونوفان لجسر الهوة في العلاقات الجاسوسية بين أميركا والاتحاد السوفييتي، وتعني كذلك مكان تبادل الجواسيس (على جسر)، وتعني الجسر الرابط بين العلاقات الإنسانية المتنافرة، وتعني رفض سكان برلين الشرقية تقسيم مدينتهم بحائط فاصل يقطع شملهم، وكذلك الجسور الفنية التي وظفها سبيلبرغ للربط بين اللقطات.

قراءة خاصة

وأجمل لقطة في الفيلم، هي الافتتاحية، والمصورة من خلف الممثل، حيث نرى أبيل يرسم لوحة لنفسه بالألوان المائية، بالنظر إلى انعكاس وجهه في مرآة، فينقل التفاصيل من المرآة للوحة، في لقطة غنية بالتفاصيل (رجل، انعكاس، لوحة)، ولها قراءة خاصة: نحن لا نرى الشخصية، بل نرى ازدواجية في انعكاسين، الأول في المرآة، والثاني في اللوحة، وهذا يعني أن الحقيقة في المنتصف.

Email