لوحة زيتية وثّقت الأحداث قبل وقوعها

"مدرب السلاحف" ألوان ممزوجة بالتنبؤ

ت + ت - الحجم الطبيعي

بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين وفي الدولة العثمانية تحديداً، ظهر رجل مختلف يدعى حمدي عثمان بيك. كان شبيهاً بمحارب عتيد ودقيق، هذا العبقري الذي أتى في زمن ضائع، لأنه أراد تحويل الدولة الغارقة في مجدها السالف، إلى دولة معاصرة وبمؤسسات جديدة وحديثة. كان مفكراً وتشكيلياً وخبيرا فنيا ومنقبا وعالم آثار وخبيرا في ترميمها.

بالإضافة إلى أنه معماري... قام بتجديد الدولة المتهالكة بتأسيسه مؤسسات فكرية وصناعية واقتصادية، هذا غير المتاحف وكليات الفنون والمعمار، لكنه شعر بعد كل إنجازاته ومحاولاته بأنه لا فائدة، فالمجتمعات العثمانية نائمة وبطيئة ولم تستيقظ، بعد أن قاومت التحديث والإصلاحات بشدة، لتأخذ الدولة طريقها نحو النهاية والموت.

رسام متميز

أخذ حمدي عثمان بيك - الذي كان رساماً متميزاً - يرسم لوحاته اللاحقة وفي سنواته الأخيرة، بشكل أكثر عمقاً ودقة وتفصيلاً، تنم عن خبرة ورؤية، فأخذ يحفر في فكرة اللوحات بشكل أعمق، بحيث بقيت رسوماته حتى الآن، وفي متاحفه التي أسسها في اسطنبول، تلقى اهتمام العالم، كما تُدرس فيما رسوماته في كلية الفنون التركية التي أسسها والموجودة في أكاديمية المعماري سنان للفنون، التي أسسها هو أيضاً.

متنبئ

شهدت لعثمان بيك كل لوحة من لوحاته بأنه مبدع ومتنبئ ودقيق ومقروء، ولأنه مواطن عثماني مختلف، غيّر وجه الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين، وفي نهاية هذه الإمبراطورية المتهالكة، والشاهد أن له الفضل في إدخال الحداثة وكل ما هو جديد وعصري من جوانبه الثقافية تحديداً، بهدف إنقاذها أمام التغييرات العالمية الجديدة.

فكان على أمل أن تأخذ الدولة سمعتها الفكرية المستحدثة رويداً رويداً. لكن، كل تلك الجهود لم تشفع له، وقد شعر الرسام بذلك موضحاً من خلال «مدرب السلاحف» أشهر لوحة في تركيا والعالم.

أعمال توثيقية

عثمان حمدي بيك رجل الدولة العثمانية الأهم في نهاياتها، أسس مدارس حديثة وهويات فكرية عصرية، وأول من نقب في جبل النمرود، وأول من قام بتأسيس متحف للآثار، المعروف في إسطنبول، وأمر بإرسال كل القطع الأثرية ومن جميع أنحاء الأناضول والمناطق التابعة للإمبراطورية العثمانية ووضعها في هذا المتحف، كما أسس المديرية الصناعية وغيرها، لتكريس الصفة المؤسساتية في الدولة العثمانية.

ولد الرسام عام 1842م من أهم رجال الدولة العثمانية، حاول المستحيل لإخراج الدولة العثمانية من جهلها وتخلفها المتراكم. وكُرم لتلك المحاولات ونال الكثير من الجوائز من الدولة مع مرتبة الشرف الفخرية من الجامعات الأوروبية والأميركية وشارة المرتبة الأولى.

ثقافة عميقة

عثمان حمدي بيك المشهور في تاريخ الدولة العثمانية والتركية أيضاً، أدلى بدلوه وبموهبته الكبرى خلال حياته الفنية، من خلال عدة لوحات تُعد لوحات عثمانية ومن فنان عثماني.

فبعد دخول الرسامين الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين في تاريخ الإمبراطورية، ورسمهم للكثير من ملامحها، يبقى الفنان عثمان حمدي بيك أكثر عمقاً من كل أولئك الرسامين والمستشرقين، لما لثقافته العميقة والمتنوعة وهويته من دور كبير في رؤيته، والأهم خبرته الطويلة في علم الاثنوغرافيا في الشرق.

وهو علم يدخل في وصف الأعراق البشرية والأجناس وسلالات الشعوب، ليقوم كفنان برسم لوحاته الاجتماعية وكأنه يقوم برصد ثقافتها وسلوكياتها الاجتماعية ومظاهرها، وحتى رؤاه وتحليله العميق، لتخرج لوحاته بدلالات ورموز أعمق، تستحق الدراسات حولها.

حارس السلاحف

«حارس السلاحف» هي من أشهر اللوحات التركية-العثمانية، كما الموناليزا في الغرب، وهي معلقة الآن في متحف بيرا المشهور في إسطنبول، وكأنها قطعة من أثمن الأحجار، لأنها اللوحة التي تنبأت بالكثير من الأحداث في الدولة، من انقلاب وثورة وتغيير وانتهاء مرحلة محددة، ليدلي بدلوه فناً رغم كل منجزاته التي تم تفعيلها.

خلال حياته الفنية، قدم عثمان حمدي بيك في أعماله عدة شخصيات عثمانية والمناظر الطبيعية للناس آنذاك والحياة العثمانية، لكنه أول عثماني يقدم الفن بصنعة دقيقة ومفصلة، فمنهجه يقوم على الملاحظة الدقيقة بلغة الرسم .

كما كان يفعل في منهجه مع التنقيب في الآثار، وهو نهج على الملاحظة بهدف التوثيق، وكأنه يصر على رسم الحياة الثقافية والأثنوغرافيا في الشرق، وهذا ما كان يميز المستشرق الرسام، ليستحق أن يُطلق عليه المستشرق الأخير.

الدرويش العملاق

الرجل الملتحي يرتدي رداءه الأحمر الطويل مع حزام ضيق على خصره، وهو لباس الدراويش، لأنه يعلق على ظهره طبقا مصنوعا من جوز الهند، يستخدمه عادة المتسولون، وهذه أسوأ مرحلة يصل إليها المواطن العثماني حينذاك، إذ كان يعلق طبق التسول على كتفه، ويضع قبعة عربية عتيقة على رأسه أيضا، ليبدو كناسك.

ينحني ليتفرج على سلاحف صغيرة تحاول ببطء أن تصل إلى طعامها، يعلق ريشات طويلة تتدلى من أمامه، وهناك أيضاً زخرفة المكان من جص وبلاط وألوان على الجدران والأرض.

كل ذلك الخيال بكل تلك البساطة، رسم حمدي عثمان بيك ليركز على قضايا الدولة في تلك الأوقات، ليقف الرجل الفقير الذي يماثل الدولة العثمانية، ينتظر بصبر وتأمل لتأخذ دوائره المالية تحاول الوصول لنصيبها من المورد ببطء شديد، كما يمسك الرجل بآلة الناي، محاولة منه لتحقيق المستوى المعاصر للمجتمع من خلال الفنون، ابتغاءً ومقاومة للتغيير، من خلال الاكتراث بالفن والمدارس الجديدة...

اللوحة التي قُرئت على أساس أنها تتنبأ بثورة تركية قريبة، وهو فعليا ما حدث بعد عامين من رسمها: الثورة التركية الشابة، والتي وضعت حداً لسيطرة السلطان الكاملة والمباشرة. وكذلك تتوقع اللوحة حسب قراءتها بحدوث انقلاب، ليحدث هذا الانقلاب عام 1913م على السلطان، ليحل محله نظام الثلاثة باشوات، وتغيير بعض جوانب القوى المركزية.

مهمة صعبة

لوحة تراقب الشرق بامتياز من خلال وجه الدرويش نحو النافذة، مراقباً من الداخل فقط أمام بطء دوائره وديونه. قدم هذا الرسام الاستشراقي بامتياز فكراً ثاقباً في عمله هذا لأنه أثبت أنه فنان بتصورات ثقافية خاصة ونموذج دقيق وعميق في نموذجه هذا من حيث التركيب والتصوير وتقنية ظهور اللوحة، بدل رسم الآخر كما فعل عدد من الرسامين.

تعد هذه اللوحة القطعة الفنية الأكثر اهتماماً وتأثيراً في متحف بيرا بإسطنبول، وقدرت قيمتها عام ألفين للميلاد بـ3.5 ملايين دولار، لكونها مهمة صعبة لمدرب السلاحف، صعبة جداً.

تبقى اللوحة مؤرخة وموثقة تاريخياً وفنياً، بالإضافة إلى توزيع الضوء والظلال الذي أنتج تناغم الألوان، وتعبيراً خاصاً يغمز ساخراً للبيروقراطية القائمة أمام قضبان النافذة المعيقة للإصلاح، رغم أنه الضوء الوحيد. وسلاحف بلا آذان لا تسمع نغم الناي.

القبعة والحذاء

رسم القبعة الشبيهة بقبعة أهل العراق مع وشاح شرقي مزخرف وقديم ملفوف حولها، يناسب رداءه العربي الطويل بزخرفته، والحذاء المغربي، كل تلك التفاصيل دلالة الأملاك العثمانية، ولأن حمدي بيك ليس رساماً فقط، بل آثاري ومنقب في عدة دول عربية كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، مثل: آثار صيدا بلبنان وغيرها.

إذ إنه شديد الثقافة، وبلا شك نرى آثار تصوراته الثقافية الخاصة في هذا العمل الفني، لتعكس التقاليد العثمانية التي كانت تشمل في كل زواياها التراث العربي.

الجامع الأخضر

أمام مدرب السلاحف في اللوحة، ثمة زخرفة ونقش بخط عربي على الجدار، اقتبسه الرسام من المسجد الأخضر الشهير بمدينة بورصة، وهو جامع يحتوي على أجمل الفنون المعمارية العثمانية القديمة، فقد بني عام 1420م، وهذا يعني قبل سيطرة العثمانيين على القسطنطينية.

وقد صممه المعماري والوزير حقي باشا، هذا ناهيك عن الفنانين المزخرفين الذين تم الاعتماد عليهم في ذلك الوقت.. وقد تم ترميمه مرات عدة. وقد يكون اقتبس حمدي عثمان بيه هذه الزخرفة ورسمها في اللوحة كمادة ثقافية زخرفية عثمانية توافق الفكرة.

«درويش عند ضريح الأمير»

رسم حمدي عثمان بيك هذه اللوحة عام ١٩٠٨م أي بعد لوحة مربي السلاحف بعامين، وهي لوحة أيضاً استشرافية، لرجل يزور القبور، ويدخل من بوابة القبر. يقف ليسلم على الأموات، أمام تابوتين، وصورة مرسومة من الداخل، أي داخل الدولة العثمانية الغنية بكل زخرفاتها الجميلة والعتيقة.

ليزخرف الرسام كل زوايا القبر، من سقف وجدران وأرضية إلى زخرفة التابوتين، مع ملاحظة أن التابوت الأكبر على رأسه عمامة والرجل بملابسه التقليدية، يلقي التحية على العمامة فوق التابوت بيده اليسرى واليمنى على القلب، وكأنه يقسم لرجل ميت ومهم في مكان تاريخي مشبع بالنهاية والموت.

السلاحف الخمس

استلهام حمدي عثمان بيك للسلاحف كان دقيقاً جداً، لأنه كان مدركا شديد الإدراك أن تلك المحاولات الإصلاحية في الدولة العثمانية باتت بطيئة وغير فعالة لأنها تأخرت كثيراً، ناهيك أنها تغييرات ذات طابع تاريخي وقديم. وإن كانت بعضها متقدمة لكن تلك الفترة كانت مضطربة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً... في كل الامبراطورية العثمانية.

لذا كل الإصلاحات التي تم إدخالها أثبتت فشلها، فكانت السلاحف الرمز الأقوى لبقايا أراضي الدولة العثمانية، والتي هي في نطاق حكمها الجغرافي، فلم يجد الرسام حمدي عثمان بيك أقوى من السلاحف للتعبير عن تلك المناطق العثمانية التي باتت بطيئة في تحسيناتها الإدارية والسبب فقر إمكانياتها.

وفي اللوحة هنا يُطعم المدرب السلاحف كنوع من الترفيه للمناطق المثقلة بالديون وهو يراقب هذا البطء دون فعل شيء، من خلال السلاحف الخمسة، وهي أجزاء من جزيرة البلقان، وأجزاء من شمال إفريقيا، وبلاد الشام والكثير من شبه الجزيرة العربية.

فقد خرجت قوى متنامية وغارات أجنبية وحركات قومية وغيرها داخل كل تلك الأراضي العثمانية، لتبقى المادة السميكة على ظهر السلاحف هي الرمز الأقوى التي تثقل على سيرهم. وكأن الرسام الدقيق في وصفه والتوثيقي من خلال خياله كان هدفه إيصال فكرة الدولة المتعبة في أجزائها، والتي تحاول بصعوبة الوصول للطعام لتحديث المجتمع والذي بات متراجعاً، فكان الإلهام عالياً، بعد أن وصلوا إلى نهاية التغيير وبلا فائدة.

أنجزت هذه اللوحة عام 1906م، أي في مطلع القرن العشرين، وكان هذا التنبؤ في محله في تفكك وانهيار الدولة، حيث لم تكن اللوحة سوى انتظار هذا السقوط من خلال السلاحف الخمسة.

12

مكث حمدي عثمان بيك في باريس 12عاماً. إذ ذهب ليدرس الحقوق كما أراد والده، لكنه درس الرسم وكان تلميذ جان ليون جيروم أشهر رسامي فرنسا.

1987

تم تحويل قصره إلى متحف كان قد بناه ليكون مرسماً، وقد حولته الحكومة التركية عام 1987 إلى متحف رسمي، يتم عرض بعض أعماله هناك.

1910

توفي في هذا العام وتقديراً له تمت الصلاة على جنازته في آيا صوفيا، حين كان مسجداً منذ دخول الفاتح.

 

كلمات دالة:
  • السلاحف،
  • لوحة زيتية،
  • ثقافة ،
  • الجامع الأخضر،
  • زخرفة ،
  • مدرب السلاحف،
  • حمدي عثمان بيك
Email