بدأت حكايته المهيبة من وداعة الغزلان وعذوبة الماء

قصر الحصن إرث إنساني ضارب في التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

من وداعة الغزلان وطيبة الماء المانح للحياة تبدأ حكاية قصر الحصن، حكاية تعود إلى مئتي عام تقريباً، ذلك الحصن المهيب الذي يمتزج بإرث إنساني ضارب في التاريخ، يرتكز على اعتياد أهل هذه الأرض تشييد الحصون والقلاع منذ فترة حضارة أم النار التي ازدهرت خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تقول الحكاية أن ظبياً مطارداً في عهد الشيخ ذياب بن عيسى ربما في عام 1763 كان سبباً في اكتشاف عين عذبة وسط الصحراء، وأن مشهد شرب الغزال الهانئ للماء وحس الشيخ ذياب الفطري بلورا رؤية جميلة للمستقبل تنبثق من ذلك المكان، بنى على أثرها برج مراقبة صغيراً لحماية هذه البئر، توافد إليه الناس ليشكلوا نواة للعاصمة الفريدة التي ستظل مرتبطة أبداً بهذه الحادثة «أبوظبي».

خصائص باهرة

الحصن الذي يبوح لنا بحكمة مفادها أنه لا يهم أن تبدأ صغيراً، بل المهم أن تعرف غايتك، كان يتميز بخصائص باهرة، فموقعه البارز المشرف على البحر، الذي شكّل لونه الأبيض المكتسب من الحجارة البحرية، أصبح علامة معهودة للسفن المسافرة عبر الساحل، الضوء الذي يتلألأ من الأصداف تحت أشعة الشمس كان يلاقي أعين القادمين بترحاب وابتسامة، خشب القرم القوي الذي غطى أرضياته وسقوفه كان يعطي انطباعاً بالقوة والمنعة، بواباته المزخرفة بزخارف ذات طابع محلي حكت صورة مشاركة مجتمعية كجزء مهم من الهوية المحلية، وعكست تلك الذات المتواضعة التي تغلب الجانب الإنساني والأدبي لأفراد الأسرة الحاكمة في التعامل مع الرعية، أما نوافذه المستطيلة والمربعة الشكل، إضافة إلى الكوى الصغيرة والمتوسطة، خصوصاً الكوى المقوسة التي تعلو النوافذ أحياناً، كانت عيوناً محبة ترقب الآتي بأمل وحذر.

مكانة القصر

من الجهة الأخرى كان يبدو كأنه انبعث للتو من الرمال فارداً جناحه الحاني على المنازل المصنوعة من الجريد وسط مساحة فسيحة من الصحراء، مانحاً إياها أماناً مُطَمئناً لتمارس حياتها بأريحية هادئة.

ومع نمو قوة مشيخة أبوظبي ونفوذها سياسياً وعسكرياً رمزاً للحكم، خضع القصر لتغييرات هيكلية عدة على مر السنوات، وخاصة خلال فترة حكم الشيخ شخبوط بن ذياب حاكم أبوظبي (1793 - 1816)، والشيخ طحنون بن شخبوط (1818 ـ 1833)، والشيخ خليفة بن شخبوط (1833 ـ 1845)، وقد عكس الشعر مكانة هذا القصر، فهذا الشاعر يويهر الصايغ مدح الشيخ خليفة بن شخبوط آل نهيان، ذاكراً قصر الحصن:

وعسى يسلم سفرها

                  دار بها التوصيف

لي ما تفنخ حضرها

                  ساجي وإلا خرّيف

خليفة هو سترها

                  راعي القدر لمنيف

وهوه حامي قصرها

                   يروي العدو بالسيف

أذرى به عن خطرها

                  وهو زبن المستخيف

 

توسعة وتطوير

أما الشيخ سعيد بن طحنون، حاكم أبوظبي (1845 - 1855)، فقد أجرى أعمال توسعة وتطوير إضافية داخل الحصن عام 1850م، محولاً إياه إلى قلعة مهيبة، وقد خاطبه في واحدة من قصائده، قائلاً:

يا قصر يا متبني

              صدق اسكنوا بك ناس

واليوم عنك ومني

             قفى الدهر لا باس

سعد أيامك رمني

             ضد النحس انتحاس

أما التوسعة اللافتة التي تتماشى مع النمو الكبير لأبوظبي في الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، فكانت في عهد الشيخ زايد بن خليفة (1855- 1909)، المعروف باسم «زايد الكبير»، توسعة لافتة، وكانت الإنجازات التي حققها بمنزلة القواعد والأسس التي بنيت عليها دولة الإمارات الحديثة.

جولة ويلسون

هذه التطورات يمكن أن نلمحها في الوثائق البريطانية المختلفة التي كانت تسمي قصر الحصن في تلك الفترة بأسماء مختلفة: (القلعة/‏‏ الحصن/‏‏ قصر الحاكم/‏‏ دار الحكومة)، ففي عام 1828م خلال جولة ويلسون المقيم السياسي في الخليج في الساحل العربي، وصف مدينة أبوظبي معقل الشيخ طحنون الرئيس، قائلاً: «لا يوجد في أبوظبي منازل مبنية من الحجارة، ولكن هناك أكواخ بنيت كلها من سعف النخيل، أما الحصن فهو بناء مرتب ولكنه صغير، وهو أفضل بقليل من المنزل الذي يقع بجانبه على هيئة مبنى آخر من الطراز نفسه»، لكن عندما أرسى السيد تال سفينة الحرب البريطانية (فيجالنت) على الشاطئ عام 1868م، وجد أن التغيرات في هيكل قصر الحصن وملامحه عكست طبيعة التطور المعماري لقصر الحاكم في أبوظبي ومدى تمتع المشيخة بالسلطة العليا السياسية والعسكرية في ساحل الخليج، فحاكم أبوظبي يضع مدافعه أمام بوابة الحصن، وعددها ثمانية مدافع من الحديد الزهر والنحاس الأصفر.

مركز ووجدان

تحوّل قصر الحصن من قلعة رباعية الشكل إلى قصر مهيب، وأصبح مركزاً للنشاطات الدفاعية والهجومية في مناسبات عدة، حيث اتخذت بين جدرانه القرارات المهمة، ورسمت في أروقته السياسات الحاسمة، وغدا مقراً لشيوخ آل نهيان الذين عاشوا فيه ومارسوا الحكم منذ عام 1795 حتى عام 1966، محتضناً بقلبه المواقف الاجتماعية والإنسانية والسياسية، التي تنغرس في عمق تاريخ وطننا الغالي.

صورة

الصورة التي التقطها المبشر الأميركي الكاهن صمويل م. زويمر عام 1901 تمثل أول صورة فوتوغرافية مناسبة لقصر الحصن في أبوظبي، حين استضافه الشيخ زايد بن خليفة شخصياً عند زيارته أبوظبي، وقد أبدى زويمر ملاحظاته على أبوظبي، وأكثر ما لفته فيها «الحصن المهيب».

Email