جـــذور

التراث وتشكيل الهويّة الوطنية.. لبنات راسخة ومقومات حضارية (2)

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال العقود الأخيرة، بدأت شعوب عدة في العالم تهتمّ بالتّراث على اعتبار أنّه هو الهويّة الثّقافيّة التي تميّز شعباً عن غيره. ولذا فإنّ شّعوباً وقوميّات مهدّدة، كثيرة، حرصت على إظهار فنونها المستمدّة من تراثها وحضارتها، وأوجدت بالتّالي حركة عالميّة تهتمّ بميادين التّراث، وتمّ عقد العديد من النّدوات والملتقيات، وتأسيس عدد من الجمعيات العلمية المهتمّة بالتراث التي أوجدت تخصّصات فيها، بناء على حاجات شعوبها وأوطانها، فأحدثت بالتالي نهضة علميّة جيّدة، وقدّمت كثيراً من فنون الأمم المهدّدة في تراثها، واطّلع عليها الباحثون والمختصّون على مستوى العالَم.

 ومن الأمور الملاحظة أنّه في مثل هذه الملتقيات يتم استعراض أوراق عمل وبحوث ودراسات في مختلف فروع التراث الخاصّة بهذه الأمم، بل ويصل الأمر إلى استعراض أدقّ التفاصيل حول حياة هذه الشعوب وتراثها وفنونها، بل وسعت بعض الدول التي توجد ضمن مكوّناتها الأصليّة شعوب قديمة، مثل: أستراليا ونيوزيلاندا والولايات المتحدة، إلى تبنّي تراث تلك الشعوب والحفاظ عليه، مع اختلافها معها في الجذور، فكيف إذاً بِمَن تأصّل وتجذّر وجوده في هذه الأرض، وعُدّ المكوّن الوحيد لها؟

وممّا لا شكّ فيه، فإن لم يكن للتراث دور في تنمية المجتمع وحفظ هويّته، فإنّ الأجيال النّاشئة لن تمتلك المرجعيّة الوطنيّة الثّقافيّة والتّاريخيّة. وستضطرّ للأخذ بهويّة جديدة لا تمتّ بصلة إلى أرض الإمارات، خاصّة أنّنا نعيش في مجتمع مفتوح كثير التّنوّع والتّعدّد الثّقافي والفكري والاقتصادي. ويزخر الأدب المحلّي بأمثال معبّرة وألغاز وألعاب وقصص وحكايات متنوّعة، حفظتها لنا الذّاكرة الشّعبيّة وتناقلتْها الأجيال، علماً وتطبيقاً.

مظاهر رئيسة

في ما يتعلّق بالزّيّ الوطني، فقد كان الهدف من لبس الملابس هو السّتر والتّزيّن والتّجمّل، طبقاً لعادات الناس وتقاليدهم في أزيائهم الممتدّة أصولها إلى إسلامهم وعروبتهم. وهي تشير إلى التّقشّف والزّهد والنّظافة والتّأقلم مع المناخ، صيفاً وشتاءً.. حرّاً وبرداً. كذلك، بناءً على ظروف اقتصاديّة معيّنة حتّمت على شرائح المجتمع لبس ما يوافق شرائحهم ومستوياتهم الاجتماعيّة.

وتعمّقت صلة الأهالي بماضي زيّهم، حيث كانوا، ومنذ القدم، يتحلّون بلبس الخنجر والسّيف. والتّزيّن بلبس البشت، ولبس النّساء البراقع ذات المشاخص، وأصبحت هذه الملابس محلّ إشارة من الرّحالة والزّائرين. وتزيّا الرّجال بأنواع متعدّدة مِن الملابس، كالعقال والغترة والكندورة والبشوت والمآزر وغيرها.

وممّا لا شكّ فيه فإنّ الأزياء الشّعبيّة تعتبر مِن المظاهر الرئيسة للهويّة الوطنيّة التي أصبحت لها خصائص ومميّزات تشتمل على طرق لبسها وألوانها وزخرفتها وتفصيلها، وخاصّة فيما يتعلّق بالملابس النّسائيّة. وتشير مسمّياتها ومسمّيات الأقمشة وأدوات الخياطة والألوان، إلى ارتباط وثيق بمجتمع الإمارات. وهي بطبيعتها تبرز طريقة معيّنة يتّبعها الأهالي في لبس ملابسهم والتّزيي بها.

التّراث المعماري

يعدّ التّراث المعماري أحد ركائز تراث الإمارات الذي كان يتوافق مع ظروف البيئة الطّبيعيّة والبشريّة مِن خلال استعمال مواد محلّيّة معيّنة، وفق أنماط هندسيّة محلّيّة أيضاً، تحرص بشكل كبير على تحقيق أُسس الاستقرار والسّكن والتّهوية والتبريد والتدفئة والسّتر.

وهي متنوّعة في السّواحل والصّحارى والجبال والسّهول والأرياف في الصّيف والشّتاء. كما اتّبعت أُطراً معيّنة في الزّخارف والهندسة مستغلّة المواد المتاحة والمتوافّرة في البيئة والمستوردة مِن الخارج، مِثل: الأحجار والجصّ والطّين وأخشاب الجندل والتّيك والقرم. وبرزت أسماء محدّدة لأنواع العمارة المحلّيّة، بينها: الحوي والغرفة واللّيوان والعريش والخيمة والمدخل المنكسر، والدروازة والمخزن والمطبخ والبخّار وبيت القفل.. إلى غير ذلك من الألفاظ الدّالّة على الوحدات السكنيّة، إضافة إلى الأجزاء الخاصّة بالمعيشة، مثل: البركة والطوي والنّخل والتنّور والحوض والمنيور أو اليازرة.

واشتهرت مجموعة مِن المباني التّراثيّة التّاريخيّة التي لا تزال شاخصة، ومنها: قلعة الجاهلي، قلعة العانكة، قلعة الفهيدي، حصن رأس الخيمة، حصن الشّارقة، حصن عجمان، حصن أمّ القيوين، فريج البستكيّة بدبي.. وغيرها. ولِلأسواق الشّعبيّة التّقليديّة دور بارز في المدن السّاحليّة في الإمارات، ولها خصوصيّة في البيع والشّراء والمتاجرة، ووضعيّة الدّكاكين، وكيفيّة عرض السّلع والبضائع.

مصدر دخل رئيس

كما تشكّل الحِرف والصّناعات التّقليديّة أحد أهمّ مقوّمات التّراث المادي، إذ ترتبط بالعقل والجسد معاً. وكانت هذه الحِرف تعتبر مِن مصادر الدّخل الرئيسة، سواء على صعيد الفرد أو غير ذلك، حيث كانت تعمل في هذا النشاط شرائح مختلفة مِن المجتمع المحلّيّ، وكانت تسدّ حاجات المجتمع. وقد اختلفت تصنيفات الحِرف في الإمارات وتعدّدت تعريفاتها وتنوّعت أسماؤها، بناء على المواد الخام أم طريقة الصنعة أم شكل الحِرفة أم موضعها البيئي والمكاني أم طبيعة صانعيها.

وكانت توجد في الإمارات حوالي 23 حِرفة ما زالت تمارس إلى الآن، وهذا يعني أنّها كانت أكثر مِن 23 في الماضي، حيث كانت تمثّل أحد موارد الرزق في المجتمع المحلّي. وقيل: إنّه كانت 30 حِرفة نسائيّة لا تزال تمارس إلى الآن في الدّولة.

ويمكن تقسيمها حسب المادة الخام إلى: السّعفيّة والجلديّة والطّينيّة والفخاريّة والمنسوجات والخشبيّة والمعدنيّة. إضافة إلى مواد أخرى، مِثل: صناعة الدوابي والقراقير، صناعة الأثمد، صناعة المالح. وكثير من هذه الحِرف لا تُرى إلا في المهرجانات والأيّام التراثيّة. ومن هنا، يأتي دور هذه «الأيّام» والفعاليات في تقريب الحرف التراثيّة إلى الأجيال، وإيصالها إليهم في نبضها وحياتها.

فرغم قصر مدّتها وكونها تنظم ضمن أوقات محدّدة في العام، فإنّها تشكّل رافداً جيّداً لا يجب الاستغناء عنه بحجّة أنّه لا يقوم بشيء، ولا يقدّم شيئاً ملموساً، فذلك في ظنّي غير صحيح، إذ إن مَن يلاحظ إقبال النّاس على هذه الأيّام يجد تأثيرها واضحاً عليهم، مع التأكيد أنّ إطار تراثنا أوسع ميداناً من ذلك، وأرحب أفقاً، وأكثر وأغنى في عناصره.

موروث نفخر به

ويجب أن يصاحب التّنمية الاقتصاديّة تنمية اجتماعيّة وثقافيّة، تقوم هي بدورها على تعزيز الهويّة الوطنيّة. ويجب ترسيخ الاعتقاد أنّ استقرار الوطن مرتبط بهويّته الوطنيّة التي تشكّلت عبر القرون والسّنين.

ولا يمنع هذا من أن يساهم مَن اشترك معنا في اللّغة والدّين والعادات والموروث التّاريخي والاجتماعي، في تقوية هويّتنا وبناء مجتمعنا. ويجب إشعار الأجيال النّاشئة أنّ صلاتها بموروثها هو ضمان لبقائها. ويجب أن يفهم النّشء أنّ لغتنا العربية الفصحى، ولهجتنا المحلّيّة الجميلة، وديننا وثقافتنا وعاداتنا ونمط حياتنا، موروث نفخر به ونحقّقه في حياتنا.

وهنا يأتي دور الاحتفاء بالموروث عن طريق:«الأيّام»، المهرجانات، وسائل الإعلام والبرامج الثقافيّة، البرامج التوثيقيّة، وسائل التواصل الاجتماعي، المشاريع البحثيّة الجادّة التي تدعمها وتتبنّاها مؤسّسات وإدارات وهيئات رسميّة وغير رسميّة، النّشر والكتابة في هذا الميدان من أهم عوامل الحفاظ على الموروث والحثّ عليه وتقديمه للأجيال.

مسؤولية مشتركة

مؤكد أن ملء الفراغ الذي تحدثه التّحديّات العصرية وتأثيراتها على مكون هويتنا الوطنية، يكون بربط الأجيال النّاشئة بالأجيال البانية والمؤسّسة، وغرس قيم الأصالة في إيجابيّات العولمة المعاصرة، وتربية النّشء على ما تربّى عليه الأصل.

وتنقية الأجواء الملوّثة عبر تعميق حضور وذكر تاريخنا الأصيل وتأكيد حيوية تأثير تراثنا. وأن تكون عمليّة الحفاظ والبناء تكامليّة تساهم فيها كلّ جهات ومؤسسات المجتمع.. مع تنوع ميادين اشتغالها.

الأمثال الشعبية

تعمِّق الأمثال الشّعبيّة الصّلة بالموروث الاجتماعي، كقولهم: «النّاس بالنّاس والكل بالله»، و«جديم الصّوف ولا يديد الْبرِيْسم»، و«رِقعة الثّوب مِنِّه وفيه».

وتعدّ مصدراً مهمّاً للمؤرّخ والباحث المتخصّص، لأنّها تكشف عن نظرة المجتمع إلى مناحي الحياة والإنسان والطّبيعة والأخلاق والفنّ والبيئة، مثلما تعبّر عن مشاعر الإنسان وأفراحه وأتراحه وآماله وأمانيه وحكمته، وتبيّن طبيعة حياة المجتمع، وكيفيّة تعامل النّاس مع بعضهم، وتقدّم صورة للتكافل الاجتماعي وصلة الرحم.

ومن هذا القبيل، ظهر عندنا ما يُعرف بالسنع، وآدابه، وترجمته قولاً وعملاً وكتابة، وتقديمه للأجيال في المدارس والجامعات وعبر وسائل الإعلام، مع الحرص على تقديمه نقيّاً، واضحاً لا لَبس فيه ولا غموض ولا أية عناصر دخيلة.

جمعيات علمية

يجب أن يحتلّ التأليف الجادّ العلميّ في التراث، محلّاً عالياً، على أن يتّبع الكاتب المنهجيّة العلميّة الصحيحة. كما يجب تقديم الموروث للأجيال عبر المناهج الوطنيّة في المدارس والجامعات، وأن تحظى الأجيال النّاشئة باهتمام كبير في الأسرة والمجتمع.

إضافة إلى ذلك، فإنّ تأسيس الجمعيّات العلميّة المهتمّة بالتراث والتاريخ والآثار يعدّ من لوازم الحركة الثقافيّة العامّة في الدولة، لتكون بالتالي رافداً مهمّاً لإحياء الموروث الثقافي للإمارات. وكذا لا غنى لنا عن الحرص الجدي والمدروس، على ما تمثّله اللهجة المحلّيّة من إطار جامع، وميدان رحب تجتمع فيه كلّ شرائح المجتمع، فتحافظ على جماليّة اللهجة، وروحها.

ــ استقرار الوطن مرتبط بصون هويته ويحصنه اقتران التنمية الاقتصادية بالاجتماعية والثقافية

ــ «الأيام» والمهرجانات المتخصصة وبرامج وسائل الإعلام مُجدية في تعزيز حضور التراث

ــ العمارة المحليّة اكتسبت مسميات متنوعة بينها: الحوي والغرفة والليوان والخيمة

ــ الصناعات التقليديّة أحد أهمّ مفردات تراثنا المادي وترتبط بالعقل والجسد معاً

صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس

Email