مناسبة تحيي التشارك والألفة والبيت الواحد

الذاكرة الرمضانية وحكايات أيام «الفريج»

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في زمن كانت فيه البيوت طينية مسنودة بجذوع النخيل، ولا يظللها سوى سعف النخيل، كانت البيوت قريبة، والعائلة الإماراتية تحمل مائدتها إلى ساحات «الفريج» لتتشاركها مع عائلتها الكبيرة «القرية»، فلم يكن شهر رمضان المبارك سوى فرصة لتعيش القرية حميمية التشارك والألفة والبيت الواحد، ولم يكن فقراء الحي يحملون هم اليوم..

وقوت العيال، فحين لا يجود البحر بخيراته، تكون خيرات القرية كلها مشرعة بمحبة أهلها. هكذا يروي كبار السن والمعايشون لسيرة التحول المتسارع للحياة الاجتماعية الإماراتية، ذاكرتهم الرمضانية، فهم يتذكرون حكاية الفريج، والبيت الكبير..

والعائلة الواحدة، وهم يقارنون بين ما كان وشكل الحياة الحديثة، حيث تغلق البيوت أبوابها على أسرها الصغيرة، وتجتمع على مائدة واحدة، فيما كانت قبل عقود قليلة فقط، تتسع لتضم الجيران، والمارة، وعابري السبيل، ويجلس عليها شيخ القرية، وعاملها؛ صياداً، ونجاراً، وبناء، وبقالاً.

يرجع كبار السن، والمعايشون في طفولتهم لتلك الذكريات إلى زقاق الحي، وهم يتراكضون، ويلاقون آباءهم المحملين بخيرات الصيد، ومؤونة اليوم، فالزمن يجري سريعاً والحياة تبدل وجهها، فلا ينظرون إلى الأبراج الشاهقة المتعالية التي باتت ترسم شكل حكايتهم المتطورة، بقدر ما يحنون إلى تلك الحياة البسيطة، الحميمة، التي كانت فيه المرأة سيدة البيت المدبرة التي تعد العدة لرمضان قبل حلوله بشهرين، فيصبح العيد قريباً، بحياكة الملابس، وتعم الحلوى، والمأكولات الشعبية المصنوعة من تمر الأرض، وحليب شياهها.

المجتمع المتماسك

«تغرودة» تتذكر مع عدد من المعايشين لتلك السنوات حكاية رمضان في التراث الشعبي، وتفتح معهم سيرة البيت الإماراتي قبل ثلاثة عقود وأربعة، فتتوقف مع عدد من الدارسين والمهتمين بالتراث، وتدوّن حكايات كبار السن كما يتذكرونها في هذا الشهر المبارك.

يقول عبد الله الشامسي 72 عاماً الذي لم يترك مجالس الشياب التي ما زالت قائمة حتى اليوم في البيوت التراثية القديمة لمختلف إمارات الدولة: «كان رمضان مختلفاً عن اليوم، فكان رمضان فرصة لتظهر سمات المجتمع الإماراتي المتماسك، إذ لم تكن العائلات تفطر لوحدها..

وإنما كانت النساء تعد طعام الإفطار ويحمله الفتية والأولاد إلى ساحات الفريج، أو بيوت كبار القرية، ليجتمع رجال القرية كلهم على مادة واحدة، يتشاركون ما لديهم، إذ منهم من يحضر الأرز، وآخر يحضر الخبيص، وغيرها من المأكولات التراثية الإماراتية، ليفطروا مع بعضهم البعض، ويكملون يومهم بعد الإفطار بالدعاء والصلاة والتعبد».

أصول ومدارس

لا يستعيد الباحث والإعلامي جمعة خليفة بن ثابث تلك المشاهد التي تربى عليها وحسب، وإنما يكشف التحول الذي أصاب طقوس رمضان بين اليوم والأمس، إذ يشير إلى أن المجتمع الإماراتي القديم لم يكن كما اليوم مشغولاً بوسائل التواصل الاجتماعي، ولم يكن التلفزيون والهواتف تسلبه وقته..

وتمنعه من مشاركته حياته مع أهله، وأبناء بلدته، وإنما كانت المجالس الرمضانية هي المكان الذي يجتمع فيه الصغير والكبير بعد صلاة العشاء، حيث كان الرجال يجتمعون في مجلس كبير الحي، ويتبادلون الحديث، والحكايات، ويبين:

«أن تلك المجالس كانت فرصة للكبار والصغار، فكان الكبار يشعرون بوحدتهم، ويتبادلون مشاكلهم، ويسهرون على حكايات بعضهم، فيما كانت تلك المجالس فرصة للصغار للتعلم من الكبار حكمتهم، وأصول تربيتهم، ويعرفون أصول - القيام بالواجب - من حيث طريقة تقديم الحلوى، وتقديم الكبير على الصغير، وتعلم الإنصات للكبير، وتقدير المريض، وتوقير العاجز، وغيرها من الأخلاقيات المجتمعية».

دروس المجالس

ويؤكد سالم سيف الجابري أهمية المجالس في رمضان، ودورها في تشكيل أخلاق الفرد، وتربيته على القيم العربية، والإسلامية، فيوضح أن الكثير من التقاليد كانت تمارس في المجلس، يمكن من خلالها الوصول إلى الأخلاقيات التي يستند عليها المجتمع الإماراتي، وتبين حجم التكاتف الذي كان في تلك السنوات الماضية، فليس غريباً في ذاك الزمان أن يقطع الأقارب والأهل مسافات طويلة لزيارة أقاربهم، والاطمئنان عليهم».

ويعتبر: «أن عادات الإفطار والمجالس ومعيشة الرجال وسبيل رزقهم تغيرت اليوم، على الرغم من تمسك الكثير من الأهالي بها، وتحولها من صيغتها التراثية القديمة إلى الشكل المعاصر، لذلك قد تكون تغيرت في شكلها، لكنها لم تتغير في جوهرها، فالمجالس ما زالت حتى اليوم، والإفطار التشاركي، لم يغب بالكامل، وما زالت العائلة الإماراتية تشارك جيرانها رزقها، وتساعد المحتاج».

طقوس رمضان

مقابل هذه العوالم والأجواء المرتبطة بطقوس رمضان عند الرجال، تروي فاطمة المغني، مسؤولة التراث في رأس الخيمة، أجواء المرأة ودورها في الحياة التراثية القديمة، فتقول:

«كانت المرأة تستعد للشهر المبارك قبل موعده بشهرين وأكثر، وكانت مهمتها مضاعفة، فالكثير من الأكلات التي يزداد تقديمها في شهر رمضان، تحتاج إلى أن تحضر قبل وقت من الزمن، وكانت المرأة إلى جانب ذلك كله، تفصل الثياب الجديدة لأبنائها، مما يستلزم منها التحضير قبل رمضان بوقت طويل».

تكافل اجتماعي

وتكشف موزة سيفان سيرة الطقوس التراثية الإماراتية في الإفطار والمجالس، فتقول: «مثلما كان الرجال يجتمعون في الساحات، ومجالس كبار الحي، كانت النساء تجتمعن كذلك في بيوت كبار الجارات، ويحضرن طعامهن معهن، ليتشاركن الإفطار مع بعضهم، وكن كذلك يجتمعن بعد صلاة العشاء لاحتساء القهوة، وتناول الحلوى، فيتشاركن الأحاديث، والحكايات الشعبية، ويتعرفن على أخبار القرية كلها في جلسة واحدة».

وتعتبر: «أن تلك العادات كان لها فضل على المجتمع بأكمله، فالمائدة التي كانت تكبر بما تقدمه كل أسرة، تلغي الفروق بين أهل الفريج، وتخلق نوعاً من التكافل المجتمعي».

Email