المستشرق الأميركي مايكل مورغن مؤلف «تاريخ ضائع» لـ«البيان»:

أحفاد ابن رشد شركاء الغرب في تهميش حضارتهم

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلم ومحزن جداً تحوّل حضارة العرب والمسلمين، نهباً للفقد والضياع والتجني.. ونكران أفضالها. لكن المُبشر والمطمئن قليلاً، أن هذا الاعتداء والتزوير الحادثين في عالمنا، لم يفلحا تماماً في خنق أصوات علماء وبحاثة أجانب مبرزين، اختاروا الانتصار لها وإحقاق الحق، أمثال: المستشرق والأستاذ الجامعي الأميركي، مايكل مورغن، الذي نذر نفسه وجهوده.

كما يقول في حواره و«البيان» لغاية تذكير البشرية جمعاء، ومن بينها العرب أنفسهم، بأهمية ودور درة حضارية أسست لتقدم أوروبا..لا بل إنها جذر وركيزة مروحة المنجزات الفكرية والعلمية التي بلغتها الإنسانية وتتنعّم بألوانها وصنوفها في وقتنا الراهن.
تنبِئنا سجلات التاريخ ووثائقه، أن الضياع كان مصيراً لأحداث مهمة كثيرة.

ولكن مايكل مورغن يرفض ويستهجن إمكانية أن نتقبل أو نسلم بفكرة تموضعه، بفعل فاعل أو جراء الجهل والإهمال، مصيراً وقدراً ينال من مكون حضارة كاملة ثرية، كحضارة العرب والمسلمين، فيجعلها فريسة التشويه والغياب أو الانتقاص من قدرها: حضارة العرب والمسلمين تعرضت وتتعرض للاغتيال، في كل يوم ومع بروز كل إنجاز في عالمنا.

إنها تعاني من ممارسات التهميش والتزوير والتجهيل، ليس في الغرب فقط، وإنما أيضاً لدى أبنائها «أحفاد ابن رشد». فكم مهول أن نجد، مثلاً، عربياً أو مسلماً لا يدري أن منارات ومنابع التقدم الحاصل في الحساب والطب والفلك والفلسفة.. علماء ومفكرون من أبناء جلدته.

وأمام واقع كهذا، لا أظننا معذورين ومحقين تماماً في تحميلنا المسؤولية بأكملها للعالم الغربي الذي يُنكر على العرب والمسلمين دورهم الحضاري. فيُعيد ما يحققه من ابتكارات ونجاحات إلى ذخر حضارتي الرومان واليونان اللتين يتبجح بأنهما جذوة الثورة العلمية والصناعية المتحققة حالياً.

ويضيف: لعلي لا أبالغ إذ أجزم بأن ما لحق بالحضارة العربية والإسلامية من تشويه وتضليل، أذكته وعززته أفكار وتصرفات جماعات متشددة مسيئة لا علاقة أصيلة لها بالإسلام. ذلك كان عاملاً أساسياً في تعميق إنكار مجتمعات الغرب إثراء العرب والمسلمين الحضارة الإنسانية.

اعتراف واجب

تساؤلات وتخمينات صارخة تثيرها دراسات الباحث الأميركي، بجانب عنوان ومضامين كتابه (تاريخ ضائع.. التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه)، ولكن يبقى محور جميع جهوده، الألمع، طبيعة ما يحمله من مشروع ثقافي.. ومنطلقات قناعاته ورؤاه.. فإلى أين يريد الوصول يا ترى ؟ :

ما ابتغيته من كتابي، وكذا ما أجتهد لأجله عبر مشروعي الفكري وأبحاثي المتواصلة، برهنة حقيقة أن التبادل والتلاقح الثقافيين، وُجِدا منذ أقدم العصور. فلا حضارة واحدة ووحيدة هي التي بنت وصقلت المنجز الحضاري والعلمي الإنساني المعيش في وقتنا الراهن.

بل ارتبط الأمر، منذ البواكير، بسيطرة الإنسان على الطبيعة وتسخيره مقدراتها مستفيداً من البناء على خبرات من سبقوه من أبناء الحضارات المختلفة.. وتوظيف مزيج الحديث والقديم لصوغ ابتكارات جديدة. وطبعاً، أنا مقود تماماً في توجهي ذاك بقوانين ونواظم العلم المنطقية والحيادية التي تعنى بكشف ما أُخفي وطوي عمداً بين صحائف التاريخ وسطور الحاضر.

احقاق الحق ويستطرد مايكل مورغن: أنا لا أزال منهمكاً في تعضيد أساسات الزخم القوي في كتابي /‏‏مشروعي، مُحفزاً ومدفوعاً برغبتي في إحقاق الحق وتوسيع حيز الاعتراف بالجميل لحضارة العرب والمسلمين، بحيث لا تستمر الحضارة الغربية في مصادرة وتسمية أي تقدم أو براعة باسمها، متناسية ومغفلة من مهدوا الطريق أمامها.

إن الحضارة والتاريخ الإنسانيين، وفق هذا النهج، يُجلدان ويُعذبان بسياط القهر والتزييف. علينا إعادة الاعتبار لمن هم أهل الفضل الحضاري ومنبعه. ولا بد أن تكون مقدمة هذا إقرارنا، نحن أحفاد اليونان والرومان، بثراء وتميز ما رفد به العرب والفرس والهنود وشعوب كثيرة في آسيا، حضارتنا، حتى بلغت ما بلغته وباتت تُنافس وتبحث بين الكواكب وفي فضاءات كونية لم نكُ لنتصورها.

منابت الشقاق وخيوطه

لا غرابة في أن يكون باحث غربي يسعى إلى التعريف بغنى حضارة العرب والمسلمين ودورها العصري، مهتماً في كشف خيوط الإشكال واللغط المفرزين هوة وبعاداً يتسعان بين أبناء هذه الحضارة ونظرائهم في الغرب، ذلك عوضاً عن اللقاء والألفة.

ولا يقف مسعى مورغن في الحقل هذا عند تلك النقطة، وإنما يعنيه كثيراً تبيّن ملامح السبل الممكنة للتقارب وكيفيات ردع التباغض بين هذين المكونين الحضاريين: لا ينبغي أن نبتعد في تشعبات الحديث وفي تحليلاتنا، عن علة محورية تولّد وتخصِّب أشكال هذه المعضلة ومفاعيلها. فعلينا السؤال أولاً، عن كيفية تقديم كلا الجانبين نفسه إلى الآخر.. وأيضاً: عن كينونة الخطاب والرؤية اللذين يتسلح بهما كل منهما في تعاطيه مع قرينه في خضم بحور هذا الفراق والبعاد (النزاعي) في صورته وسمته المشهودتين.

إذاً، لا مناص، وقبل أن نسلك دروب الحل والتقريب بين حضارتينا، من الاعتراف بتضخم وتأزم علاقتهما المتشنجة.. فما من درك أخطر مسطور في مكنون التاريخ يحكي عن حضارتين إنسانيتين بلغتا ما نختبره ونعيشه نحن من حالة فراق وفرز وفصل معرفي وسيسيولوجي ومفاهيمي عام.

إلا أنني، وللإنصاف، أقر أن المذنب الأكبر هو الغرب الذي يستند إلى معايير التصنيف الديني البحت في نظرته.علاوة على احتكامه في علاقاته وتواصله إلى منطق القوة والسيطرة والتسلط ( فكرياً وعسكرياً وعلمياً). إن نهجه هذا يتبدى بفجاجة في علاقته مع الشرق أبي الحكمة.. ومع العرب والمسلمين بشكل أكبر.

وما يؤلم أكثر أن تشابك وتألُب المسألة يغذيهما خلط الغرب وفهمه الأعوج في شأن جملة قضايا، عقائدية وسياسية وفكرية، تمس العرب والمسلمين، وهو ما يجره ليتسلح بظنون ووجهات نظر تظلمهم وتجعلهم ضحية مرتين. ومنها: لصق الإرهاب بهم وبحضارتهم، مناصرة إسرائيل وتعميق مأساة الفلسطينيين أصحاب الحق، الانتقاص من قيمة ودور المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية.

وينبه مورغن في نهاية حديثه هنا إلى مسألة حساسة خطرة: إن حال لقاء وتواصل مجتمعاتنا، المرتبكة والهشة أساساً، أمست تتهددها أخطار التحول إلى صيغة صراع شامل لن تهدأ نيرانه يوماً، وذلك في أية لحظة. والمرعب أنه لم يفلح أي من العلاجات والمحاولات، للآن، في تقريبنا من بعضنا البعض بشكل حقيقي

. وذاك طبعا، ليس إلا حصادا لعدم إيلائنا الثقافة كبير الأهمية والتركيز في مساعينا ومبادراتنا. وهو، بالتالي، ما جعل علاقاتنا الجيدة على صعد محددة، مثل: الأعمال والتجارة والتعليم، مؤطرة في نطاقاتها العملية الخدماتية، ولا تنتج أو تمهد للقاء مثمر بيننا: فكري وثقافي..فحضاري جوهري.

استثناء

لا يعفي صاحب «تاريخ ضائع» العرب والمسلمين من المسؤولية في ما لحق بهم من ظلم ومحاولات تزوير، مرماها تهميشهم وتصنيفهم في خانة التشدد والإرهاب..وكذا تقزيم مكانتهم الحضارية والحط من مستوى ما يحملونه من قيم إنسانية: مؤكد أن كلامي وتوصيفي في المحور السالف لا يعنيان أن العرب والمسلمين غير ملامين ومسهمين في تشكل هذا الواقع وثباته. فهل لنا أن نسأل: ماذا يقدمون من أنشطة وبرامج تعريفية وتثقيفية تصوب نظرة الغرب إلى حضارتهم وثقافتهم..

وتشرح مدى سماحة معتقداتهم وانفتاحهم؟ ألم يختاروا، منذ قرون، القبوع في دواخل أسوار الخوف من غريب الأفكار والتهيب من هبَات التغيير.. والحذر من الغرباء والتحسب لأية مبادرة أو فعل أو اقتراح من قبلهم. هذا عدا عن محاربتهم وردعهم صفوة المفكرين ونخبة التنويريين والمتحررين في مجتمعاتهم ؟

وبطبيعة الحال، لا بد لي هنا من الإشارة إلى استثناء عصري مؤثر ومهم غدا يفرز نتائج مشهودة على الصعيد الدولي، ويتمثل في دولة الإمارات العربية المتحدة التي لا تألو جهدا في توظيف كافة المقدرات والإمكانات، للتعريف بغنى الثقافة العربية والإسلامية. إضافة إلى استثمارها الناجع والناجح في الثقافة والمعرفة..والحرص على جعل أرضها موئلا وواحة لوئام ولقاء وحوار شعوب العالم.

جسر اللقاء

«الاستثمار في الثقافة وأدواتها.. قاعدة وبيئة التقريب والانسجام بين الطرفين». تلك هي الوصفة الناجعة التي يراها مورغن مخرجاً لمشكلة اللا لقاء، بل التنافر والخصام، بين ثقافتين ومجتمعين حيويين ( مجتمع العرب والمسلمين من جهة والمجتمع الغربي من جهة أخرى):

إن الفنون بصنوفها، ذات المضمون القيمي السليم، وحدها ما يشكل مركز الثقل والمحرك الفاعل في عملية تكوين علاقة قويمة بين مجتمعينا تنتج انسجاماً بنّاء يلزمنا طواعية الاعتراف بالآخر فقبوله، ومن ثم كسر الحواجز بيننا وبينه. إنها ما يُخلص قاموس تعاطينا من النزعة العدوانية في النظرة إلى شركائنا الحضاريين.

وهي الكفيلة ببعث بروق القيم الإنسانية في حلقات تعاملنا وفهمنا لبعضنا البعض لتصير علاقاتنا معافاة وبعيدة عن الضغينة أو التخندق العقائدي. إن الثقافة والفن، بتنويعاتهما، رهاننا ومحط رجاءاتنا وآمالنا لنزيل معوقات تقاربنا الحقيقي القائم على استبعاد أية أفكار مسبقة واعتراف كل منا بمكانة الآخر وتميز إسهاماته الحضارية.

الحروب الصليبية أصل داء الفراق والعداء

يوضح مايكل مورغن، أن البحث المعمق عن تاريخ وآفاق الوئام واللقاء بين (الشمال ) و(الجنوب: العرب والمسلمين تحديداً)، قاده إلى كشوف ومعلومات كثيرة، تحفظها الأدراج، تقص علينا أصول وحكايات علاقة الطرفين، بكل أحوالها، طوال المراحل المتعاقبة.

إذ يقول: ربما يعيد بعض الدارسين تاريخ الشرخ والنزاعات بين مجتمعينا، إلى آلاف السنين، منذ بروز حضارات الشرق( بابل وآشور والفراعنة والفينيقيين).. وكذا عصور الحضارتين اليونانية والرومانية. ولكننا، فعلياً، لا نحتاج كبير جهد ونحن نبحث عن منابت حال التباعد والتناحر بين الجانبين لنتأكد أنها لم تكن هي السائدة بينهما.

فالتواصل الحضاري بين الشرق والغرب، بيّن ومثبت تقصُه بجلاء السجلات والوثائق العتيقة..ومعه تقدم فكراهما وارتقت منجزات كليهما في حقب متفرقة. وانسحب الوضع على علاقة الحضارة الإسلامية المزدهرة بالغرب.

ودامت تلك الحال طوال قرون وألفيات إلى أن تبدى وانغرس النزاع منطلقاً لاحتكاك وارتباط حضارتينا، بفعل الحروب الصليبية، ذلك بدءا من القرن الـ11 م، والتي أسست لبغضاء استمرت تتواتر بيننا وتتضخم، حتى وقتنا هذا.

14

يقول مؤلف «تاريخ ضائع»: كان لافتاً، في تاريخ علاقات مجتمعينا، ما شهدته القرون التي أعقبت القرن الـ14م..وذلك حتى العام 1800، من تفاهم ولقاء بيننا، أثمرا استفادة مجتمعات الغرب، المتأخرة حينذاك، من مضامين الحضارة العربية المتقدمة.. في شتى حقول العلم، ذاك خاصة بفضل حضارة الأندلس، إذ أسست عبر إسهاماتها وعقول ومؤلفات علمائها وفلاسفتها لانطلاقة نهضة الغرب.

ولكن مطلع القرن التاسع عشر، كان موعداً جديداً للفراق. إذ انصبغ بالتعصب والشوفينية الغربيين القاتلين، إذ تسيدت معهما دعوات ونظريات التفوق الغربي..لتعود بذا، ومن جديد، حال الشقاق الخطرة بيننا، التي انبثقت منذ الحروب الصليبية حين انسحب الاختلاف العقائدي بين الغرب (المسيحي) والعالم العربي والإسلامي( المسلم بغالبيته)، على ميادين الثقافة والفكر والاجتماع. فمات الأمل في ظلها بانبثاق أي وئام أو سلام.

بطاقة

مايكل هاميلتون مورغان. مفكر وأديب أميركي. من مواليد 1951. عمل في السلك الدبلوماسي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط فترة زمنية طويلة. وهو أستاذ جامعي وبحاثة شهير عالمياً.

لديه أعمال ودراسات عديدة، تدور في مجملها حول محور بحثي واستقصائي رئيس اختاره مبكراً: إزالة التشويه الذي لحق بحضارة إنسانية أسست لرقي البشرية ورفعتها: حضارة العرب والمسلمين. وتُرجم كتابه الأبرز: «تاريخ ضائع ..التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه» إلى اللغة العربية من قبل دار نهضة مصر في العام 2008، أي عقب صدوره بعام واحد.

Email