يرى أن الشعر الحقيقي يعيش خارج الزمن

محمد بنيس: لست حراً.. لكنني أتشبث بالحرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الزمن مع شاعر بقامة الدكتور محمد بنيس يمر سريعاً، في وقت يجب على الجليس أن يكون متنبهاً إلى كل كلمة يقولها هذا المبدع المغربي الذي ينتقل بخفة ساحر بين أفكاره، ويتحدث بقدرة مبدع عن شعره الذي يقاوم به الموت (كما قال)، ويتابع مؤكداً أن الشعر الحقيقي خارج الزمن.

هذا النوع من الشعر هو الذي جعل د. بنيس يحتل مكانة كبيرة على المستويين العربي والدولي منذ ثمانينيات القرن الماضي، معمّقاً موقفه من الصلة بين الشعر واللغة. وقال إن الشعر كما الفلسفة يطرح سؤالاً، وخلال هذا كان يكتب كي يبحث عن نفسه، في قصيدة لا تشبه قصيدة الآخرين، فتجسد إبداعه بأكثر من 13 ديواناً، من بين 30 كتاباً، قدم فيها دراسات عن الشعر العربي.

«البيان» التقته خلال وجوده في أبوظبي، لحضور اجتماعات الهيئة العلمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب، باعتباره أحد أعضائها، ومن هنا كانت البداية:

توجد في أبوظبي لحضور اجتماع الهيئة العلمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب، فما مهمتكم بالتحديد؟

الهيئة العلمية مكونة من مثقفين وكُتاب وباحثين ومترجمين، ونجتمع للاطلاع على ما تقوم به لجان التحكيم، والتأكد من قيمة التقييمات، والاقتناع بأهمية الأعمال المرشحة، ونجري كأعضاء هيئة فيما بيننا حواراً مفتوحاً بنظرة عميقة للثقافة العربية، والثقافة بصفة عامة، ومن وظائفنا الخلوص إلى اللائحة القصيرة للمرشحين، التي تقدم لمجلس الأمناء ليقرر في النهاية النتيجة، بعد تقديم اقتراحنا بخصوص الفائز.

ومنوط بنا أيضاً ترشيح جائزة شخصية العام، التي يمكن ترشيحها من أعضاء المجلس العلمي، أو جهات أخرى، ولكن المرشح لهذه الجائزة لا يعرف فكرة ترشيحه، وله وضعية اعتبارية خاصة جداً واستثنائية.

مشروع ثقافي

كيف تنظر إلى جائزة الشيخ زايد للكتاب؟

للجائزة هيئة تحرص حرصاً كبيراً على موضعيتها وقيمتها، حتى تحاول أن تعكس فكرة الشيخ زايد نفسه للثقافة ومكانتها، واحتراماً لمكانته، وللثقافة في العالم العربي، والثقافة العربية في العالم.

وللجائزة ثلاثة مستويات، الأول الجائزة نفسها، والثاني وضع تخصيص عام للجائزة في المستقبل، والثالث توسيع دائرة تأثير الجائزة، وهذه المستويات متكاملة.

إلى أي مدى أثر ما يحدث في العالم العربي من تقلبات في عملية الإبداع، وبالتالي استقبال الجائزة للأعمال؟

هناك تأثير كبير جداً في الثقافة العربية ككل، ونلاحظ بغض النظر عن الأحداث أن هناك أوضاعاً ثقافية متبدلة، فالمغرب العربي، الذي كان في بداية التكوين والإنتاج، أصبح الآن يُنتج أعمالاً مهمة جداً لانفتاحه على الثقافة العربية والغربية. وفي المشرق هناك انعكاس سلبي جداً، لأن الأوضاع لا تسمح بإنتاج أعمال قوية بشروط معرفية وثقافية مشجعة، لذلك نجد الكثير من المبدعين يقومون بمجهود كبير لكي يكتبوا أعمالاً قوية.

والثقافة العربية ككل تجتاز محنة، فالثقافة الدينية أصبحت مهيمنة، وهو ما لا يساعد على الإنتاج الفكري والإبداعي، كما أن العولمة تبعد المجتمع عن الثقافة، وفي مثل هذه الشروط يكون للجوائز معنى، وتكون محفزة للنخبة إلى أن تستمر في العمل، وتنبه القُراء بوجود أعمال تستحق أن نقرأها ونعتمد عليها، لبناء مشروع ثقافي في مرحلة صعبة، تكاد تدفعنا إلى اليأس.

جدلية الشعر والفلسفة:

في أحاديثك وقصائدك، تبدو متشبعاً وجدلياً، فكيف تبدو علاقتك بالفلسفة؟

هذا سؤال مهم جداً، وممكن أن يكون وحده عنوان حوار كامل، في مراهقتي اكتشفت أربعة أعمال: ديوان «أغاني الحياة» لـ«الشابي»، وديوان المتنبي، وأعمال جبران خليل جبران، و«هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه، ووجدت تكاملاً بينها، وهذا التكوين الأول والنواة في تجربتي الشعرية رافقاني حتى اليوم.

ولمن تقرأ من الفلاسفة الآن؟

قراءاتي متحررة من الواجبات الأكاديمية، وأقرأ الفلاسفة والأعمال التي أجد فيها إما جواباً عن أسئلتي، وإما قدرة خاصة على تعميق الأسئلة، ورأيت أن أجمل شيء يلتقي فيه الشعر والفلسفة أولاً هو السؤال، فالشعر سؤال وليس جواباً، والفلاسفة الكبار قادونا إلى أسئلة كبرى، وبالمقارنة الفلسفة لها منهج، والشعر له منهج آخر، فالفلسفة لها مجموعة من المصطلحات والضوابط التي لا توجد في الشعر.

لكنني لم أشعر يوماً بأنني أكتب على هامش الفلسفة، أو بتأثير منها، أو أنني أجلس تحت ظلها، وهذا حيرني كثيراً، لأن الشعر الذي حاولت أن أكتبه منذ سنين مسكون بأسئلة وجودية، وربما «ميتافيزيقية»، هذا ما سميته الدهشة والسر، لكن اكتشفت في النهاية أن للشعر معرفته الخاصة، وعادة ما تغيرنا القراءة الأولى، وأعتقد أن هذا مرتبط بالفلسفة وبأن الشعر ليس فكراً.

لماذا ليس فكراً؟

هذا ناتج عن كون الشعر العربي بالإجمال غنائياً، والشعر الذي ارتبط بالفلسفة هو الشعر اليوناني، ولديهم فكر خاص بالقصيدة، وهو ما جعلني أطلع على الكثير من الكتابات في «الشعر والفلسفة»، وأكبر المهتمين بهذا الموضوع هم الألمان، ثم الفرنسيون، ثم الإسبانيون، ثم الإيطاليون واليابانيون والصينيون فيما يخص الفلسفة «التاوية».

ولهذا لا أندهش أن «هايدغر»، أكبر فلاسفة القرن العشرين، قد اعتمد ببنائه الفلسفي على الشعر، لأجل تفكيك البنية «الميتافيزيقية» للشعر الغربي، وأظن أن هذا البعد جانب من قوة القصيدة، لكن في الوقت نفسه هو عامل من عوامل نفيها عن الرأي العام، الذي يحب القصيدة السهلة الغنائية المطربة، وأنا شخصياً ليس هذا شعري.

الشعر واللغة:

أعود بك إلى سؤالك القديم عن الشعر واللغة، بعد هذه التجربة إلى أين وصلت؟

منذ شبابي أحسست بأن سر القصيدة هو اللغة، عند القدماء والمحدثين، لكن ابتداءً من أواسط الثمانينيات بدأ العالم يتغير، والدعوات التي وجهت إليّ للقاءات أوروبية ساعدتني على حرية التفكير والتعبير، وعند مشاركتي مع شعراء كنت أجد كلامي يصل إلى الآخر، وأسمع كلاماً ليس ممكناً بسهولة في العالم العربي.

وتبين لي أن أخطر شيء من قدوم العولمة هو هجران اللغة، فاللغة لا قيمة لها في العولمة، وأكبر علامة على هجران اللغة هجران الشعر، لأن الشعر هو أساس اللغة.

فاللغة ليست هي لغة تعامل يومي، لو كانت كذلك لماتت، فاللغة تبقى حية في هذه الجدوى الخلاقة التي يخلقها الشعر في اللغة، وهذا ما لا يمكن أن نعوّضه في أي فن كتابي، فاللغة لا يقدمها إلا الشاعر، وهنا دور الشعر بتجديد الطاقة العميقة اللانهائية للغة، والحقيقة الآن أن هناك مقاومة للقصيدة تجاه ما ينفي القصيدة.

هل اللغة فقط؟

هناك إغراءات كثيرة كي تهجر القصيدة، ولكن الوعي بمعنى الزمن وبالمصير الفردي والجماعي يجعل للقصيدة الأولوية، سواء بعدم التنازل عن كتابتها، وعدم التنازل عن المراجعة الدائمة لهذه الأسس التي تقوم عليها، لذلك فدور الكتابة هنا - إذا كانت القصيدة تعطي هذه الطاقة الداخلية للغة - يجعل الشاعر ملزماً بأن يبحث عن تلك الطاقة الداخلية التي تجدد القصيدة.

عناوينك لافتة «هذا الأزرق» «نهر بين جنازتين» فكيف يأتي اختيارك للعنوان؟

أحياناً يكون العنوان هو مصدر الديوان، فأنا لا أكتب القصيدة، بل أكتب الديوان وأشتغل فيه أربع سنوات، وأحياناً يأتي العنوان في مرحلة متوسطة أو لاحقة، وربما يأتي في آخر لحظة عندما تنتهي القصيدة، وربما يكون عندي عنوان في البداية، ولكن القصيدة آخر شيء، فربما يحتاج العنوان مني إلى المجهود نفسه الذي تحتاج إليه كتابة القصيدة.

لو لم تكن شاعراً ماذا كنت ستكون؟

(يضحك) شاعر، حياتي هي هذه، وصلت إلى سن تجعلني أعود كل مرة بقسوة إلى نفسي، وأريد أن أعرف لماذا هذا الشيء ينزعني من العالم، ويرمي بي في عالم أخر لا معنى له في مجتمعنا، وكلما تأملت قلت: هناك نتائج يجب أن أتحملها بصبر، وأن أقاوم بأي درجات.

فالكتابة تنزعك من كل شيء في الحياة، ولا بد أن تكون بأقصى درجات الأنانية لكي تكتب، ولا يمكن أن تكون على وفاق مع محطيك ونفسك، وهذا شيء أعتقد أنه في الوقت نفسه صعب جداً، لأن الكتابة تقوم على كلمة واحدة هي الحرية، والحرية ثمنها غالٍ جداً، لأنه في كل لحظة تكون أمام اختيارات، إما أن تعيش وإما أن تموت بها.

لأي مدى تشعر بأنك حر؟

أشعر بأني متشبث بالحرية، لست حراً.

هل تعتقد بوجود من يستطيع أن يعيش حراً؟

لا.. لا تستطيع أن تعيش كل الحرية، ولكن أتشبث بها وأعيش أفعال الحرية في لحظات الاختيار، وبذلك كنت أشعر بمعنى الحرية، أو أعيش نتائجها وقيمتها، وبعذاب اختيار أن تكون حراً.

وأحس أن الكتابة مرتبطة بالمصير فردياً وجماعياً، لذلك أقسو على نفسي كثيراً، ويجب أن أقول إنني لا أريد شيئاً، فهذه الجملة التي تفتح لي باب الإيمان بالحرية.

شعر وفن:

من هم الشعراء الذين تعاود قراءتهم أكثر من مرة وفي كل مرة تكتشف الجديد؟

ابن زيدون، ابن خفاجة، ابن عربي أعيد قراءته كثيراً، لأنه اشتغل كثيراً على اللغة، ورامبو ملارميه، ودانتي، وآخرون، ومع العمر تختصر المكتبة بأسماء محدودة، ربما في لحظة أعود لأقرأ أدونيس ببعض الأشياء، وبدر شاكر السياب في أشياء، لأختبر وأرى وأظل على علاقة بهذه الأعمال، وأجد فيها متعة القراءة، ثم توقظني على أشياء لم أكن أنتبه إليها، أو تفتح لي باباً جديداً، فالعلاقة بالكبار مدهشة.

كان لك تجربة مع الفنان العراقي ضياء العزاوي، ومع غيره من الفنانين، بالجمع بين الشعر والفن، فكيف كانت تلك التجربة؟

بالنسبة إلى تجربة العزواي أتت في عام 1993، وفي حديث أنا وضياء قال لي: «إن العراق خرب بحرب 1991، وأنت من أصول أندلسية، فماذا يمكننا أنت وأنا أن نقول للعالم اليوم».

واتفقنا على أن الأندلس كان فيها كاتب كبير هو ابن حزم، كتب كتاباً فريداً عن الحب هو «طوق الحمامة»، وسنشتغل عليه برؤية حديثة، وبعد أن تبادلنا ما كتبت وما رسم في لندن، اتفقنا بعدها على ألا أطلعه على ما أكتب ولا يطلعني على ما يرسم، على أن نلتقي في الوسط، فالقصيدة ليست ترجمة للعمل التشكيلي.

والتشكيلي ليس ترجمة للقصيدة، ولكن هناك مصاحبة من موضوعة اسمها الحب من خلال «طوق الحمامة»، فالتزمت بالكتاب ودخلت في حوار مع ابن حزم لا بالعودة إليه لأجل تقديس ما يقوله، فهناك أشياء جميلة جداً، وأعتبرها صالحة حتى الآن، وهناك أشياء أكتبها بزمني، ولذلك اعتبرت نفسي شخصاً يجلس قريباً من ابن حزم ويتحاور معه.

ومن هنا جاء هذا العمل، وجاءت أعمال عديدة مع رسامين عرب وأوروبيين ويابانيين، وتعرفت إلى أصدقاء كثيرين، من مختلف الجنسيات، يشتغلون رسامين، ورسامين يشتغلون مع شعراء في إنجاز أعمال، وهذا تقليد لا يوجد كثيراً في العالم العربي، فالقارئ الموجود اليوم أو هواة الرسم وجمع الأعمال يفضلون إما اللوحة وإما الديوان، ولا يوجد الجمهور الذي يجمع بين الاثنين.

حصلت على جوائز عديدة، وترجمت دواوينك إلى لغات عدة، فكيف تنظر إلى هذين الأمرين في تجربتك؟

شيئان مرتبطان، إذ أعتبر الترجمات أكبر الجوائز التي يحصل عليها الإنسان، والجوائز لها معنى رمزي، تحس أن فئة من القراء التي تمثل مؤسسة ما، يجدون بالعمل شيئاً له معنى ويفكرون فيك، وهو ما يعطي نوعاً من الاطمئنان الداخلي في زمن التقلبات، وخاصة بالنسبة إلينا بالمغرب.

الترجمة نوعان، ترجمة يقوم بها شعراء أو بإشراف شعراء، وهذه يكون مستواها رفيعاً، خاصة عندما أعرف اللغة التي تتم بها الترجمة، فأدخل في حوار مع المترجم لأجل ضبط بعض الكلمات، وهناك ترجمات يقوم بها أشخاص يحبون الترجمة، ولكن لا يتقنونها.

هل تفكر في كتابة مذكراتك؟

أشعر بأن القصيدة فيها كل شيء، ولكنني سنة 1994 ألحّوا علي في جريدة «الحياة» ببيروت من أجل كتابة زاوية، وقالوا: اكتب ما تشاء، ووجدت نفسي أكتب شذرات عن سيرة حياتي، ولكن كتبتها بمرحلة كنت فيها أجتاز وضعية نفسية صعبة وصراعات ثقافية.

وهذا انعكس على هذه النصوص التي سمتيها «شطحات لمنتصف النهار»، وهي 46 نصاً، وكان عمري عندما انتهيت 46 سنة، الآن ستصدر الأعمال النثرية في 5 أجزاء، وعندما أعدت قرأتها وجدت الكثير من السيرة الذاتية، ولست أدري ربما يأتي يوم أكتب فيه سيرتي الذاتية.

إضاءة

Ⅶمحمد بنيس شاعر مغربي ولد عام 1948 في مدينة فاس، ويعد أحد أهم شعراء الحداثة في العالم.

Ⅶحصل على إجازة في الأدب العربي عام 1972، وعلى دبلوم الدارسات العليا 1978 في موضوع ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب (مقاربة بنيوية تكوينية)، وعلى دكتوراه دولة في موضوع الشعر العربي الحديث.

Ⅶأصدر أكثر من 30 كتاباً منها 13 ديواناً، منها «نهر بين جنازتين» و«هبة الفراغ».

Ⅶصدرت ترجمات لبعض أعماله الشعرية والنثرية في بلدان أوروبية. منها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ومقدونيا وتركيا.

Ⅶحصل على جوائز عدة منها جائزة المغرب للكتاب عام 1993، وجائزة العويس عام 2007، والجائزة المغاربية للثقافة في تونس 2010، وجائزة تشيبو العالمية للآداب 2011.

Ⅶوشّحته الدولة الفرنسية 2002 بوسام فارس الفنون والآداب، وغير ذلك الكثير.

 

Email