«مريض بوطنه» تعلم العربية استجابة لجدته

واسيني الأعرج: الإرهابيون لم يتركوا لي مكاناً في بلدي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يحمل في صوته هدوءاً وكأنك تقرأ إحدى رواياته التي تأخذك بتسلسل لقصة جميلة، كما تجد في شخصيته لطفاً وتقبلاً للآخر، مع ترحيب لكل معجب بكتاباته.

الروائي الجزائري واسيني الأعرج عاصر الاستعمار والحركات الإرهابية، ويحب اللغة العربية حبا بجدته التي أصرت على تعليمها له، بالرغم من «فرنسة» المدارس في ذلك الوقت، إلا أنه مع ذلك أديب يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وينتمي إلى المدرسة الجديدة التي لا تستقر على شكل واحد وثابت، بل تبحث دائماً عن سبلها التعبيرية الجديدة والحية بالعمل الجاد على اللغة؛ فيما قادته نزعته الإنسانية إلى التنازل عن كل حقوقه المادية عن كتبه لصالح علاج أطفال المرضى بالسرطان. هذا ما تشير إليه عبارة يمكن أن يلحظها القارئ على أغلفة مؤلفاته.

بناء الإنسان

حازت رواية واسيني الأعرج «كتاب الأمير.. مسالك أبواب الحديد» على جائزة الشيخ زايد للآداب لعام 2007، كما اختيرت روايته حارسة الظلال «دون كيشوت في الجزائر» ضمن أفضل خمس روايات صدرت في فرنسا سنة 1997، ونشرت في أكثر من خمس طبعات متتالية بما فيها طبعة الجيب الشعبية، قبل أن تنشر في طبعة خاصة ضمت الأعمال الخمسة، ومن خلال إحدى زياراته لدولة الإمارات كان معه هذا الحوار الذي يتناول فيه حبه لوطنه وللغة العربية وأهم الشخصيات المؤثرة في حياته وكتاباته.. في حوار«البيان» معه سألناه:

ما الفرق بين القارئ العربي والفرنسي؟

في الحقيقة هناك فرق ثقافي وليس في التكوين أو الطبيعة، فالجميع يأتي باستعدادات طبيعية، ولكن الفرق في أن القارئ الفرنسي يتكون في بيئة تقرأ. بمعنى أن والده ووالدته في بيته يعلمانه، والآن حفيدتي «عليا» التي تعيش في فرنسا، وعمرها سنتان، تقرأ وتلمس الكتاب المصنوع من القماش، وتتهجى الحروف، ونحاول تعليمها العربية، وهذا كله قبل أن تدخل المدرسة، فهناك حينما يصل الطفل لمرحلة الدخول للمدرسة يبدأون بوضع الكتاب بين يديه ليقرأ القصص ويناقشها حتى يصل لدرجة عالية تصير معها القراءة جزءاً منه، ليحكي لأقاربه ماذا يقرأ.

وهناك علاقة وشيجة بين الكتاب والطفل، تنمو مع تبلور شخصيته وتتوثق مع تكون وعيه. وفي المقابل لا توجد لدينا في الدول العربية مثل هذه التقاليد والنمط من الحياة، حيث يترك الموضوع رهينة الصدفة، لا التخطيط اللازم لبناء الإنسان؛ لذلك هم يبنون الإنسان، بينما نحن ما زلنا لا ندرك قيمة هذا البناء.

ما هي الشخصيات التي تأثرت بها كتاباتك؟

الجدة شخصية مهمة، وقد ذكرت ذلك في كتاب «سيرة المنتهى»؛ فالجدة التي من خلال قصصها عن التاريخ الأندلسي والأجداد صنعت مني إنساناً مهتماً بالأندلس. أقول دائماً إن جدتي هي معلمي الأول مع أنها كانت أمية ولكن كانت تمتلك ذاكرة خطيرة وقوية. وهي أول مصدر لما سمعته من القديم، وكانت بمثابة حلقة وصل قوية، وقد عاشت قرابة الـ 100 سنة.

والشخصية الثانية هي والدتي رحمها الله، وهي امرأة عظيمة، فبعد استشهاد والدي عام 1959 ترك لها 6 أطفال 3 صبيان و3 بنات، فكيف لها أن تتمكن من تحمل هذه المسؤولية وأن تحقق تنشئة صالحة وجيدة، وكيف تعلمهم في بيئة كان الجهل لا يزال مسيطراً عليها، حيث كانت اللغة الفرنسية هي السائدة واللغة العربية ممنوعة، لكن بالنسبة للوالدة فقد كان الأمر مهماً، فاهتمت بأن نتعلم، وقطعت على نفسها رهاناً بسبب أن الوالد قبل أن يستشهد وهو في السجن كان قد أوصى بأن يتعلم الأولاد، وبعدها تستطيع أن تتزوج حيث كانت صغيرة في السن آنذاك، ولكنها بقيت مع أولادها وعلمتنا، لذلك أنا أدين لوالدتي وجدتي بكل ما يحدث لي اليوم من هزات جميلة ومن أشياء يعتز بها المرء.

التيارات الإرهابية

ماذا تعني لك الجزائر؟

هي وطني، وذاكرتي وحياتي، وهي أيضاً ألمي وجرحي، فقد رجعت إلى بلدي وأنا أحمل الدكتوراه وكنت أرغب في البقاء لأعمل هناك، ولكن وجود التيارات الإرهابية لم يترك لي المجال للاستمرار فسافرت إلى فرنسا، ولكن علاقتي بالجزائر قوية جداً؛ بالنسبة لي الجزائر مهمة وأكتشف دائماً أنها مهمة. عندما تتذكر أن مقابرك كلها هناك وصوتك الأول، وجدك الأول عندما حط رحاله من الأندلس وقـــف هناك، كيف يمكن بعد ذلك أن ستتــــنصل من وطن كهذا؟

هل تعتقد أن الرواية التاريخية يمكن أن تنجح في العالم العربي؟

تنجح بشرط أن لا تعيد انتاج طريقة جورجي زيدان، لأنه كتب الرواية التاريخية بمنطق أنه يعلمنا التاريخ، عن طريق القصص الشعبية أو القصص الغرامية، ويدرج هذه القصص ضمن منظومة تاريخية، وقد اتضح أنه غير مجدٍ لأن الناس في رواية جورجي زيدان يذهبون نحو الحب ويتركون التاريخ، فالرواية التاريخية تحاول ان تجيب عن الحاضر بوسائل الحاضر والماضي الذي صنع هذا الحاضر.

ماهي في نظرك وظيفة المثقف العربي؟

أن يكون منصتاً إلى وطنه ومجتمعه، والى لغته وقومه ومن ثم يسهم في تحويل المجتمع بطريقته ككاتب، وهو ليس عالماً أو سياسياً، بل هو بالدرجة الأولى كاتب ينشئ قيما فنية وحضارية على أن يدافع عنها باستماتة ويظل وفياً لها.

حب الوطن

تقول إنك مريض بحب الوطن.. كيف ذلك؟

عندما كانت الجزائر تعاني من الويلات الإرهابية ولمدة عشر سنوات، تقاسي الألم، وانت جزء من هذا المجتمع، فكل يوم تفجع بمقتل مثقف كبير، هناك مجموعة من أصدقائي قتلوا، منهم عبدالقادر علوله، وهو واحد من كبار المسرحيين الجزائريين وكان ينصحني دائماً بأن أخرج من البلد، ويقول لي: انت كاتب تحمل قلمك وترحل، أما انا فعندي مسرح لو استطيع أن أحمل المسرح على ظهري لحملته وغادرت البلد، لأن الاستمرار في الكتابة وفي المسرح وفي الفن هو أكبر وسيلة للمقاومة. وقد قتل علوله لاحقاً بعد خروجي من الجزائر بشهر، هذا يولد مرضاً تحاول ان تتفاداه. لقد هاجرت ولكن كلما تذكرت هذه القصة أدخل في دائرة نسميها «استراحة المنفي».

أيضا المنفى يحدث حين تجد نفسك ممزقاً بين وطنك وبين الوطن «فرنسا» الذي منحك الحماية وفرصة العمل. هو أيضاً وطن، ولكن مع ذلك انت تصير مريضاً ببلدك فـــعندما تقارن أنه كان بالإمكان أن نكون في وضع أفضل، حيث ان الإمكانيات المادية موجودة والمستوى العـــلمي والعقلاني موجود، فما هو السبب للوصول إلى هكذا أوضاع، لا تجد إجابة وعدم وجود الإجابات هو مرض، لذلك في نهاية المطاف أقول أنا مريض بهذا الوطن.

كيف هي علاقتك مع اللغة العربية والكتابة بها؟

اللغة العربية بالنسبة لي شيء مهم وأساسي، وقد ذهبت لتعلم اللغة العربية منذ بداية تكويني وكتابتي للحروف. وحينما كان عمري 5 سنوات كنت أكتب باللغة الفرنسية، فهي التي كانت موجودة في عام 1954، وقد استقلت الجزائر في 1962 لذلك قرأت ودرست في المدرسة الفرنسية 5 سنوات، كما كانت المدارس الجزائرية لا تزال في تلك الفترة «مفرسنة».

انا الذي ذهبت نحو لغتي الأم، إذ كانت جدتي العظيمة تحرص أن أتعلم اللغة العربية، وكانت تقول لي: لا بد من تعلم العربية ففي ذلك وفاء لأصولنا ووفاء لجدك الذي غامر وجاء إلى هذه الأرض، وعليك أن تهتم بثقافته وحضارته.

وأضاف: لم يكن هناك تلفزيون، لذلك كنا نجلس نتحادث مع الجدة طوال الوقت، وكنت أحب حديثها جداً. وبعد وفاة الوالد، خرجت الوالدة إلى الحقول للعمل، فبقيت مع الجدة وتشبثت بها لأنها أصبحت مكان الأم. وقد سألت جدتي يوماً كيف لي أن أتعلم اللغة العربية وليس هناك مدارس تعلم اللغة العربية، فقالت لي: انا آخذك لسيدي يعلمك في مدرسة قرآنية.

وقد كان حبي للجدة هو مصدر حبي الحقيقي للغة العربية، وربما لم أكن لأقبل لو طلبت أمي مني ذلك. وهكذا تعلمت اللغة العربية حتى تغلغلت بي وأصبحت جزءاً مني، كما أني أحب اللغة المباشرة التي تدخل الى أعماق الإنسان، وأريد من قارئي أن يشترك معي في نفس الأحاسيس.

مبادرات القراءة

ما رأيك في مبادرات القراءة التي أقيمت على أرض الإمارات العربية المتحدة؟

هي ممتازة وأثمنها عالياً، فهي بادرة خير للعالم العربي كله، لأن إعطاء قيمة للقراءة هو إدراك لما تحمله الأجيال القادمة من رهانات، لأن المستقبل يرتكز على الأجيال القادمة إذا علمناها القراءة فستكون رائعة، فالقراءة انفتاح على الحياة، والعيش من خلال القراءة يمنحنا الأمل، القراءة مهمة والتنبؤ لها مهم، وقد فرحت للفائز في تحدي القراءة وهو جزائري، وأتمنى على أهله أن يساعدوه في الانفتاح على العوالم الأخرى، ولا يتركون اهتمامه مقصوراً على الدين والحضارة فقط.

لا بد أن ينفتح على الآداب والإنسانيات، حتى يدرك أن الإنسان ليس ما يراه وليس ما يلمسه من خيبات. الإنسان موجود في النصوص الروائية أيضاً، وهي تعطيه فرصة للحب والاكتشاف. وقد كرموه في الجزائر واهتموا به أيضاً، ونتمنى أن يتحول الى رمز جميل.

جدلية الرجل والمرأة

يقول واسيني الأعرج عن روايته كازانوفا : تنطلق من فكرة بسيطة وعادية، قد تحدث ملايين المرات في العالم العربي والإسلامي، وهو أن رجلاً تشاء الظروف أن يتزوج 4 نساء، وهي فكرة مقبولة نسبياً في المجتمع العربي والإسلامي مع إني لا أقبلها شخصياً، لكن المشكلة الكبيرة تبدأ من العلاقة، إذ كيف يمكن أن تكون هناك علاقة عادلة بين 4 نساء؟ كما هو مذكور في القرآن الكريم «ولن تعدلوا» هناك شرط العدل، ويستمتع هذا الرجل بالحياة وهو غني وينسى أنه في يوم من الأيام قد يصبح لا شيء، لأن الإنسان هش مهما كانت قوته وسلطته.

وبالفعل يحدث أن يصاب بجلطة دماغية تجعله مشلولاً يفقد بعدها قوته وينازع الموت، وكل مرة يؤخذ للإنعاش ويستيقظ بين فترة وأخرى يطلب بأن يلتقى بنسائه ليعتذر منهن، فقد استيقظت حالة الضمير الدفين ويريد أن يعتذر وهو في أعماقه امتلك الدنيا ويريد أن يمتلك الآخرة أيضاً، فحضرن ولكن قد تغيرت العلاقة، حيث جئن هذه المرة لزيارة شخص ضعيف، فيتفاجأ بأن كل واحدة منهن تحكي ما لا يريد سماعه فيصدم.

وهي الحقيقة التي لم يكن يريد أن يراها على مدى 40 سنة، فالحقيقة لا تموت، مثل طائر الفينيق، تستفيق من الرماد، فقد سرق حياة احداهن من خلال زواجه منها، فالعلاقة الجدلية هي بقدر ما تعطي من حب تتلقى الحب.

مسيرة ملأى بالجدل النقدي

تجلــت قوة واسيني واسينـي التجـــريبية التجـــديدية بشــكل واضح في روايته التي أثارت جدلاً نقدياً كبيرًا، والمبرمجة اليوم في الـــعديد من الجامعات في العالم «الليلة السابعة بعد الألــف» بجزأيها: رمل الماية والمخطوطة الشرقية.

فقد حاور فيها ألف ليلة وليــلة، لا مــن مــوقع ترديد التاريـخ واستعادة النص، ولكـــن من هاجس الرغبة في استرداد التقاليد السردية الضائعة وفهــم نظــمها الـــداخلية التــي صــــنعت المخيلة العربية في غناها وعظمة انفتاحها.

أصدر سلسلة طويلة من الرويات منها:

• البوابة الحمراء، وقائع من أوجاع رجل. دمشق/‏ الجزائر 1980

• طوق الياسمين، وقع الأحذية الخشنة. بيروت 1981

• ما تبقى من سيرة لخضر حمروش. دمشق 1982

• نــوار اللوز. بيروت 1983 - باريس للترجمة الفرنسية 2001

• مصرع أحلام مريم الوديعة. بيروت 1984

• ضمير الغائب. دمشق 1990

• الليلة السابعة بعد الألف: الكتاب الأول: رمل الماية. دمشق/‏الجزائر 1993

• الليلة السابعة بعد الألف: الكتاب الثاني: المخطوطة الشرقية. دمشق- 2002

• سيدة المقام. دار الجمل - ألمانيا/‏الجزائر 1995

• حارسة الظلال. الطبعة الفرنسية. 1996

• ذاكرة الماء. دار الجمل- ألمانيا 1997

• مرايا الضرير. باريس للطبعة الفرنسية. 1998

• شرفات بحر الشمال. دار الآداب. بيروت 2001

• مضيق المعطوبين. الطبعة الفرنسية.2005

• رواية كتاب الأمير. دار الآداب. بيروت. 2005

• سوناتا لأشباح القدس. دار الآداب. بيروت. 2009

• البيت الأندلسي. دار الجمل - 2010.

• جملكية أرابيا. منشورات الجمل 2011

• مملكة الفراشة 2013

• رماد الشـــرق الجزء الأول: خريف نيـــويورك الأخير 2013

• رماد الشرق الجزء الثاني: الذئب الذي نبت في البراري 2013

 

ــ مبادرات القراءة في الإمارات هي بادرة خير للعالم العربي

ــ تعلُّم العربية وفاء لأصولنا والمثقف يجب أن يكون منصفاً

ــ هناك فرق ثقافي وليس تكوينياً بين القارئ العربي والفرنسي

ــ يتنازل عن حقوقه المادية في كل كتبه لعلاج مرضى السرطان

ــ تنجح الرواية التاريخية حينما لا تعيد انتاج جورجي زيدان

Email