لا يريد من الحكومات بساطاً أحمر يضمن الحماية للكاتب

عبدالله الغذامي: المثقف «الغلبان» كارثة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بين سيطرة السياسي على المثقف، والتصاق المثقف بالسياسي، تقف علامات استفهام كثيرة، تعقبها علامات تعجب، فهذه الجدلية لم تُحل على مدى سنوات طوال، ولكنها بالنسبة للناقد والأكاديمي السعودي الدكتور عبدالله الغذامي لا تعتبر جدلية على الإطلاق، طالما أن المثقف يتقن لعب دور المغلوب على أمره طوعاً لا كرهاً، وطالما أنه تخلى عن إنسانيته مطالباً بصك أمان من السلطة.

الإبحار معه في حوار ثقافي حتى النخاع، يشبه مواجهة دبابة حربية في وضح النهار، جرأته تشبه إلى حدٍ كبير، جرأة أعلامٍ في الأدب، تصدوا بأقلامهم لشتى أنواع القهر والعذاب في سبيل قول كلمتهم، فأضاؤوا بكتاباتهم عتمة السجون والمعتقلات، لينتجوا أروع الآداب في تاريخ الإبداع العربي.

في آرائه متفردٌ إلى ما لا نهاية، متجردٌ من كل ما يمكن أن يهز ذاك الإنسان في داخله، ولكل سؤال لديه إجابة، حرية القلم حقٌ لا يمكن التنازل عنه، والخوف عجزٌ لا يمكن الرهان على صاحبه، والمثقفون الجبناء - بالنسبة له - في كارثة حقيقية، بل هم أنفسهم الكارثة.

«البيان» تواصلت مع الدكتور عبدالله الغذامي، في حوار قتل الخوف ودفنه، فلا خوف في صحبةِ قلمٍ أدرك دوره الحقيقي فأدّاه، ولا جُبْن في ظل الإيمان بحرية الفكر والإبداع.

جدلية

عن علاقة المثقف بالسياسي بدأ الحديث، فالجدلية القائمة بينهما لا تزال قائمة، وعنها قال: لا شأن لي بالسياسي، شأني بالمثقف، فمشكلة المثقف «الغلبان» الضعيف الخانع المقهور أنه هو الذي قهر نفسه بنفسه، رغم أن أعظم الآداب هو أدب السجون وأدب الحرب وأدب المشردين والمهمشين والمسحوقين، ومبدعو هذه الآداب كتبوا وأنتجوا روائعهم تحت الجوع والقصف.

ودليل ذلك أدب المقاومة في فلسطين الذي يعد من أعظم النماذج الأدبية، فمحمود درويش ظل ملاحقاً طوال عمره، وظلت الرصاصة الإسرائيلية تطارده، وإدوارد سعيد كان يلاحَق حتى في مقاهي نيويورك، وظل الموت يجري وراءه، إلا أنه انتصر بقلمه حتى على الخوف وعلى الموت.

لا للجبناء

وأضاف الغذامي: الكاتب الذي يخاف لن نراهن عليه، ولو قلنا له لا تخف لن يُنتِج، ولو أتينا له بصك أمان من السلطة، فلن ينتِج أيضاً، لأنه خانع بإرادته، والعبد العربي هو من يردد بأنه لا يمتلك الحرية، وليس المثقف العربي، وعلينا ألا ننشغل بالتفكير فيه.

وطالب الغذامي بإنهاء المثقف «الجبان»، وقال: المثقفون في كارثة، بل هم أنفسهم الكارثة، والذين يطلبون البساط الأحمر والحماية من غيرهم ليسوا مثقفين، ولا نريدهم، وأطالب بإنهائهم، فهم العلة.

وأشار إلى أننا بحاجة إلى ثقافة لا ينتجها المثقفون، بل تنتجها الجماهير، وينتجها أطفال الحجارة في فلسطين.

المثقف والإنسان

وعن دور المثقف والمطلوب منه، قال: مطلوب من المثقف اليوم أن يكون إنساناً مثل محمود درويش وإدوارد سعيد، أن يقول كلمته بلا خوف، مطلوب منه أن يكون مثل نجيب محفوظ الذي كان يجلس في مقهى بين الفقراء، وكدح بيده حتى وصل إلى ما وصل إليه من مكانة، وأن يحتذي ببدر شاكر السياب الذي كان يلاحقه المرض والموت والجوع، ورغم ذلك حقق ما حققه من إبداع، هذا ما نريده من المثقفين، ولا شيء غير ذلك.

استراتيجيات

الحديث مع عبدالله الغذامي لا بد وأن يأخذك إلى زوايا أكثر عمقاً، فوجهات النظر المختلفة التي يطرحها، كفيلة بأن توسع آفاقك، وتمنح العنان لفكرك أن يتبنى آراء جريئة، متمردة على كل ما يزعزع في داخلك حقك في الحياة وفي إثبات وجودك، وحق قلمك في استنشاق الحرية، بعيداً عن أي أصوات توشوش في أذنك، أو أفكار تصول وتجول في رأسك، أو تمتمات تحكم قبضتها على عنقك.

الحديث معه أخذنا نحو مطالب المثقفين المتكررة باستراتيجيات عربية تعيد للمثقف حقه واعتباره، لنسمع في صوته تلك النبرة المنحازة للحرية، ليقول بكل صراحة ووضوح: الزعم بأن الثقافة بحاجة إلى استراتيجيات تعيد للمثقف اعتباره وهم كبير، يجب أن نلغيه تماماً وألا نسمح به، فلا نحن ولا غيرنا بحاجة لاستراتيجيات.

ولا معنى أبداً لمثل هذا الكلام، وفي الدول المتقدمة لا يوجد حتى وزارة ثقافة ولا وزارة إعلام، كما أن المطالبة بالحرية لا تحتاج إلى استراتيجية لصياغتها، فهي عبارة عن جملة واحدة، ومن يقول إنها بحاجة إلى تجمعات وتجنيد همم، فهذا القول هراء، وكأن الناس لا يشعرون بواجب الحرية، وعليهم أن يدركوا أن الحرية تُنال، ولا يُطالب بها.

عبث

ولفت الغذامي إلى أن الحديث عن استراتيجيات ثقافية أمر نسمعه منذ أربعين سنة، ولا معنى له على الإطلاق، وقال: أولاً كان الحديث عن استراتيجيات ثقافية يُطرح بأبعاد إيديولوجية، والأحزاب التي مرت على العالم العربي، زعمت وتزعم دائماً أنها ستصنع استراتيجيات، وأيضاً عملت جامعة الدول العربية على استراتيجية واشتغلت عليها لسنوات طويلة ثم نشرتها.

ولكنني رغم ذلك أقول إن الثقافة لا تشتغل باستراتيجيات، الثقافة تشتغل بحرية نابعة من ذات الإنسان، بكونه إنساناً مثقفاً أو قارئاً، أما الكلام عن الاستراتيجيات فهذا عبث حقيقي نمارسه، ونكذب من خلاله على أنفسنا، ونزيف فيه وعينا، ونظن أن الثقافة قابلة لأن تكون لها خطة مثل خطط الميزانية أو خطة بنك من البنوك، هذا الكلام كله هراء.

عطاء ثقافي

وأشار الغذامي إلى أن الثقافة عطاء، فالإنسان الجاهل البدائي قبل أكثر من 20 قرناً، أنتج الفكر والفلسفة عبر الملاحم والقصص والأساطير والحكايات، وأفلاطون ألَّف كتبه، وغيره من المبدعين في التاريخ، بما فيهم المقموعين والمساكين والبسطاء، وهؤلاء ألفوا أعظم أنواع النماذج الثقافية على مدى التاريخ كله، ولذا فعلينا ألا نستمع للذين يخادعوننا ويقولون إننا بحاجة لاستراتيجيات.

ولأن جدلية المثقف والسياسي تترصد لأي حديث يتعلق بتأسيس استراتيجية ثقافية، لتقف ساعة التنفيذ كاللقمة في حلقها، سألنا عبدالله الغذامي عن مدى تقبل الحكومات العربية لتفعيل استراتيجية يتفق عليها المثقفون العرب، ليجيب دون تردد، وكأنه كان باحثاً منذ أمد عن هذا السؤال.

فأجاب: لا أريد من الحكومات ولا من غيرها أي بساط أحمر يضمن الحماية للمثقف، فمحمود درويش واجه الدبابة الإسرائيلية، وإدوارد سعيد واجه الاغتيالات الصهيونية في قلب نيويورك، ولم يطلب أي منهما استراتيجية، ولم يطالبا بالأمان ولا بالتحصين ولا ببيانات من هراء لا معنى له.

استراتيجيات

وعن التجمعات والاتحادات الثقافية التي تطالب باستراتيجيات ثقافية تعيد الاعتبار للمثقف والثقافة العربية، قال: كل التجمعات والاتحادات الثقافية التي تقام لا تعنيني، واتحادات الأدباء العرب عمرها يصل إلى 60 سنة، ولكنها لم تفعل شيئاً أبداً، وأعظم أدبائنا لم يكونوا أعضاء في هذه الاتحادات، لا نجيب محفوظ، ولا محمود درويش، ولا إدوارد سعيد، ولا السياب، وأصحاب هذه الاتحادات يريدون أن يكونوا زعماء كأي زعماء آخرين، ساعين لجعل اتحادهم قوة ديكتاتورية يفرضون بها سلطتهم، وهذا هراء.

سيرة ذاتية

الدكتور عبدالله الغذامي، أكاديمي وناقد أدبي وثقافي سعودي، وأستاذ النقد والنظرية في جامعة الملك سعود بالرياض، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة إكستر، وهو صاحب مشروع في النقد الثقافي وآخر حول المرأة واللغة.

كان الغذامي عضواً ثابتاً في المماحكات الأدبية التي شهدتها الساحة السعودية، ونادي جدة الأدبي الثقافي في فترة الثمانينات بين الحداثيين والتقليديين، أثارت كتبه الجدل، ككتابه الذي يؤرخ للحداثة الثقافية في السعودية وهو بعنوان «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية»، وهو من الأصوات القوية والمؤثرة في المشهد السعودي الثقافي، استهدفته الجوائز والدراسات.

فحصل على جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج في العلوم الإنسانية، وجائزة مؤسسة العويس الثقافية في الدراسات النقدية، إلى جانب تكريم «مؤسسة الفكر العربي» للإبداع النقدي، وله العديد من المؤلفات أبرزها «الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية»، و«المرأة واللغة»، و«القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة»، وغيرها.

»سقوط النخبة وبروز الشعبي« رسالة للمثقفين

لم يجد الدكتور عبدالله الغذامي رسالة أفضل من كتابه «الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي» ليتوجه بها للمثقفين، في محاولة منه لتوصيل رسالة مغزاها أن المثقف سقط ولا قيمة له، لافتاً إلى أن كتابه هذا هو جوابه للمثقفين الذين يطالبون باستراتيجيات ثقافية، وفي كتابه الفائز بجائزة العويس الثقافية فرع الدراسات الأدبية والنقد «الدورة السادسة»، ناقش الغذامي أهمية الصورة التلفزيونية وتأثيراتها المختلفة في المتلقي الشعبي العام.

ويضم الكتاب ثمانية فصول، ناقشت ثقافة الصورة التلفزيونية وقوتها في تهيئة الرأي العام لقبول الفضاء الصوري مهما كان شكله، فيما كان الثقافي التفاهي - على حد تعبير المؤلف - يتأرجح بين سهولة وسذاجة ما تطرحه الفضائيات لتسقيط نموذج المثقف النخبوي الذي يتوارى عادة وراء أقنعة الثقافة الفضفاضة، دون أن يكون له حضور بارز يستطيع من خلاله وقف المد الباهت للصورة التلفزيونية وتأثيراتها السالبة في المجتمعات، ومن ثم تتضخم الصورة التلفزيونية أثناء الحروب لتعكس الوجه الآخر من تأثيراتها السياسية والاجتماعية، فالصورة «تخيف لأنها تفضح».

Email