نظرة عن كثب على الواقع والآفاق من خلال تجارب الناشرين

هل أخذت صناعة النشر الإماراتية حقها

ت + ت - الحجم الطبيعي

انطلاقاً من أهمية دور صناعة النشر في تطوير المنتج الثقافي المقروء ناقشت جلسات وورش عمل ملتقى «أبوظبي للنشر» أخيراً التحولات والإنجازات في صناعة الكتاب، وتجربة الإمارات في هذا الشأن، وتنوعت المناقشات لتغطي العديد من المحاور المهمة التي سعى من خلالها المشاركون إلى التصنيف الموضوعي لإشكالية صناعة الكتاب في دولة الإمارات.

في هذا التحقيق نلقي الضوء عن كثب على تجربة النشر الإماراتية، ومن منظور ثقافي يطرح هذا التحقيق السؤال التالي: هل أخذت صناعة الكتاب في الإمارات حقها؟ وما هي مشكلة الثقافة مع النشر؟ وهي أسئلة ربما كانت إجابتها تأتي من تجارب الناشرين الإماراتيين الشخصية، بينما هدفها الرئيسي هو توضيح الرؤية المتعلقة بواقع صناعة النشر الوطنية.

وعي ثقافي متفاوت

إبراهيم الهاشمي، وهو شاعر وكاتب وباحث وناشر، قال «ربما تلخصت تجربتي الشخصية في مجال النشر في هذه الملاحظات أو المشكلات التي يعاني منها الكثير من دور النشر الإماراتية، فالواقع أن إشكالية النشر ربما كان مصدرها أن هنالك وعياً ثقافياً متفاوتاً بين الناشرين.

فالبعض اتجه إلى ناشطي وسائل الإعلام الاجتماعي ولهم متابعون فبدأوا يطرقون أبوابهم دون النظر لإشكالية ما ينشر وإن كانت له علاقة بالقصة أو الرواية، كما تبنوا مقولة أن الزمن هو زمن الرواية أو القصة، واللافت هنا أن الرواية هنا تسقط منها الكثير من المعايير اللغوية والفنية في غياب التدقيق اللغوي حتى. والحقيقة أنني لست ضد هؤلاء الناشرين، ولكن السلبيات التي خلقها هذا الأسلوب غير الصحيح في التعامل مع الكتاب، الذي قدم في الواقع بعض التفاهات لا أكثر.

واليوم أيضاً تبتعد دور النشر عن نشر الشعر وغيره من أشكال الكتابة مقابل نشر الرواية وهي إشكالية. لكن الآن هناك إعادة نظر إلى حد ما في فنيات ترويج الكتاب، فيجب أن تكون هناك مصداقية ورقابة جادة من قبل المؤسسات التي تقوم بترخيص الكتاب وعدد طبعاته. إن دور المؤسسات الثقافية وأولاها دور النشر برأيي هو احترام القارئ وهو ما يحتم وجود أدوات فاعلة منها المدقق أو لجنة قراءة كأقل تقدير وهو أيضاً ما تجد الكثير من دور النشر نفسها عاجزة عن القيام به بسبب تكاليفه المادية.

الناشر المثقف

وأضاف الهاشمي: «لكن في النهاية الناشر هو إنسان معني بالثقافة وعليه أن يدفع بالمشهد الثقافي نحو التطوير، وهو من جهة أخرى تاجر ومن غير المعقول أن يدخل في عملية النشر دون أن يحقق أي نسبة من الربح، لكن نقر بأنه عندما يغلب دور التاجر على دور الناشر المثقف فهذه مشكلة. ثم إن هناك شيئاً آخر هو مشكلة الدعم الذي ينبغي أن تقدمه المؤسسات الثقافية الكبرى دون تحيز».

ثقافة التعميم

عائشة سلطان، كاتبة وناشرة، قالت عن هذه الإشكاليات، «بداية أنا ضد ثقافة التعميم بشكل عام، ولو نظرنا إلى صناعة النشر في الإمارات فهي جديدة وكل الذين تصدوا لعلمية النشر كان أغلبهم شباباً لا يملكون الخبرة في هذا المجال، كما أن عدداً منهم كان قد أتى من خلفية تجارية، ولكن هنالك من يحمل هماً ثقافياً فهناك الشاعر وهناك الكاتب والروائي.

ومن البديهي صراحة أن الثقافة والنشر شركاء ولكن لكي تستمر الثقافة فهي بحاجة إلى قوة مادية تتكئ عليها، فالثقافة منتج في النهاية قد يكون كتاباً ومكتبة وقد يكون مسرحاً وقد يكون سينما وقد يكون موسيقى ودار أوبرا، هذا كله وفي ظل نظام السوق الحرة كيف أضمن وجود مؤسسات غير ربحية ولكنها تحتاج إلى المادة لتستمر؟ الواقع أنه في أوروبا على سبيل المثال هنالك توازن وهنالك برامج ثقافية جادة وأخرى تجارية وكل له جمهوره، هنالك الرائج والشعبي، عموماً هنالك تلبية لجميع الأذواق الجمهور نفسه يساعد في التمييز هنا وهو ما يصنع التوازن».

تجربة مرهقة

وأضافت: «بالنسبة لنا في الإمارات لو حرص الناشر على أن يقدم للسوق سلعة ثقافية جادة فهو سيقوم بذلك على نفقته الخاصة والحقيقة أن هذا الأمر مرهق بالنسبة لميزانيته، لقد قمت بتجربة ترجمة كتب جادة لمترجمين كبار أمثال «صالح علماني» و«رفعت عطفة» وهما مترجمان معروفان في العالم العربي فواجهت بعدها هذه الإشكالية، والواقع أن هذا يضع الناشر أمام أحد طريقين.

فإما أن يعترف بأن هذا الطريق صعب ويدور في حلقة مفرغة أو أن يلجأ للبنوك ليدخل في متاهة الديون، أو يلجأ للترويج لأي عمل تباع منه آلاف النسخ ببساطة كما في الترويج لنجوم وسائل الإعلام الاجتماعي الذين يكتبون عن تجاربهم الشخصية، وهو ما يوظف هنا أو أخذ أفكار وإعطائها لآخرين يقومون بصياغتها ككتاب وإذا كان هذا موجوداً فهي طامة.

هنالك دعم للناشرين لكنه غير عادل حتى إن بعضه يوجه إلى الخارج، وليس لدي شك في حسن نوايا المسؤولين والقائمين على مشاريع الدعم لكن التنفيذيين يبدو لك أنهم بحاجة إلى الرقابة، مشاريع الدعم بحاجة إلى رقابة. كما أنني أطرح مشروع الاندماج بين دور النشر لكي يكون هناك كيان قوي منافس بشكل حقيقي من حيث الإصدارات وتقديم السلعة الجيدة».

النشر كما هو

جمال الشحي، كاتب وناشر، قال: «أتذكر عبارة جميلة قالتها في أحد عناوينها الشاعرة والروائية والكاتب ظبية خميس «الحياة كما هي» وأنا أقتبس أثناء استعراض تجربتي الشخصية في النشر عبارة «النشر كما هو»، لأنني سأتحدث بصراحة.

لقد بدأت علاقتي بالنشر منذ أن كنت أعمل لدى «مؤسسة محمد بن راشد» وأنا أتحدث عن السنوات ما بين 2007 و2008 في هذه المرحلة تنبهت إلى أن عملية النشر في الإمارات صعبة جداً، وشيء آخر مهم هو أن النشر في القطاع الخاص غير قادر على القيام بدوره في الوقت الذي كانت فيه طباعة الكتب موجودة في القطاع الحكومي وشبه الحكومي وهو مختلف عن عملية النشر، ما كان يعني بالنسبة لي قصوراً في سوق الكتاب في المرحلة التي كان يلجأ فيها كتابنا إلى نشر كتبهم في الخارج. كذلك كان يلفت انتباهي أن الجيل الجديد من الكتاب لم يكونوا ليحصلوا على فرصتهم في النشر، وسواء اتفقنا أو لم نتفق كانت هنالك نخبوية ثقافية تفرض معايير معينة، كقوة النص والخلفية الثقافية».

مزاج مختلف

وأضاف: «في ذلك الحين قررت أن أفهم صناعة النشر وكنت أيضاً قد أنهيت تعليمي الجامعي في أميركا ولا أبالغ إذا قلت بأنني كنت قارئاً في الوقت ذاته وأن القراءة أتاحت لي فرصة التعرف على تجارب دور نشر عالمية، كما تنقلت أيضاً بين عدد من دور النشر في لبنان وتعلمت الكثير عن صناعة النشر، ثم انتقلت بعد سنتين إلى الإمارات وعملت من مكتبي بشكل فردي بالتعاون فقط مع ناشرين في بيروت، كنت بارعاً فيما يسمى ما بعد النشر وهو عملية التسويق والترويج وصناعة الكاتب ومن هنا كانت استفادتي من وسائل التواصل الاجتماعي، ومشاركاتي في معارض الكتب التي لم تكن متواضعة فقد كنت أهتم بالشكل وبالإحساس ودغدغة مشاعر المستهلك».

حرق المراحل

واستطرد الشحي: «لو جئنا إلى مسألة الدعم فلم أكن أهتم بها بقدر ما كنت أفكر في ابتكار طريقة مختلفة، لماذا لا أعامل الكتاب كسلعة؟ لماذا لا يكون مشروعي تجارياً بحتاً؟ وجهة نظر غريبة كيف تكون الثقافة تجارة؟ لكن لكي تستمر لا بد وأن يكون لديك نظام تجاري واضح خاصة وأن هناك من يسألك: لماذا لا يقارن دخل الكاتب العربي بالكاتب الأجنبي؟ الجواب بسيط جداً وهو أن لديهم صناعة أما نحن فلم نرث صناعة النشر بالطريقة الصحيحة، حيث حقوق المؤلف وحقوق الناشر وهناك مدير النشر التجاري ومدير نشر آخر يقنن إبداعياً وكلها معايير تحكم هذه العملية.

لكن حينها أيضاً لم يكن لدي دفاع عن النصوص التي كنت أنشرها فتنبهت إلى أهمية دراسة وتصنيف النصوص، والواقع أنني أقر بأنني وقعت في أخطاء منها أن القيمة الفنية لبعض النصوص كانت أقل من المستوى الذي ينبغي أن تكون عليه والسبب يعود إلى اعتمادي على أشخاص ومدققين ليست لديهم الكفاءة والنتيجة هي إنتاج نصوص ضعيفة. أنا الآن أكثر انتقائية، وقد تعلمت من أخطائي وأتمنى من الناشرين وهم يتعاملون مع الثقافة ألا يحرقوا المراحل مثلما حدث معي».

إشكالية كتاب الطفل

صالحة غابش، وهي شاعرة وكاتبة وناشرة متخصصة في كتب الأطفال، أكدت أن كتاب الطفل هو الأكثر حاجة للتدقيق والدعم وهنا يأتي دور المحرر الأدبي والدعم من المؤسسات الثقافية ويأتي دور الإعلام في الترويج.

وباعتباري ناشرة في مجال كتب الأطفال واليافعين فأنا أولاً أرى أن كتاب الطفل على الرغم من أنه على العكس من فترات سابقة نعرفها أنا وأنت قد وجد التشجيع والترويج له على الأقل من خلال البرامج الأخرى التي تروج للقراءة وللغة العربية بين الناشئة ومنها على سبيل المثال ملتقى ناشري كتب الأطفال ومهرجانات كتب الأطفال وهي شيء إيجابي، إلا أنه بحاجة إلى تطوير صناعته وإلى اهتمام أكبر، والواقع أنني قد أسست دار نشر خاصة بكتب الأطفال لأنني شغوفة بذلك وقد كتبت للطفل أثناء عملي مدرّسة ثم استمر اهتمامي بالكتابة للطفل واليافعين بعد ذلك إلى اليوم، وآمل أن يضيف ذلك معلومة للطفل إلى جانب القيمة الأخلاقية والقيمة الإبداعية.

ولعل المشكلات التي تواجهني هنا كما تواجه غيري من أصحاب مشاريع دور النشر الوطنية، تضعني أمام صعوبات فالحقيقة أن الدعم المادي من المؤسسات المعنية هو ما نناقشه في غالبيتنا كناشرين وهو ما سيسهل علينا التفرغ أكثر للاهتمام بالثقافة دون الانشغال الزائد عن الحد بأمور التجارة.

نحن ندير مشاريع ثقافية تقدم سلعة فكرية وهو ما ينبغي أن يكون محرضاً على تقديم الدعم لنا وأنا هنا لا ألوم مؤسسة بعينها ومنها وزارة الثقافة المعنية على الأقل بشراء الكتاب بسعر مناسب لتكلفته، فكتاب الطفل بحاجة لدعم كبير وهنا أشير إلى الدعم الذي يقدمه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في مبادرته لشراء الكتب من معرض الكتاب وهناك برنامج تحدي القراءة الذي سنبدأ التعامل معه قريباً ولكن ما عدا معارض الكتب فهناك تعقيدات في التعامل مع كتاب الطفل.

كيف يكون الغد

سعيد حمدان الطنيجي، كاتب ومدير إدارة البرامج في قطاع دار الكتب في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، تحدث عن كيف سيكون الغد؟ وهو السؤال الذي طرحه منتدى النشر، فقال: «إن السؤال السابق هو محور ملتقى صناعة النشر وبعده نطمح إلى التغيير، فنحن في دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي لدينا مشروع يتم العمل عليه لو تذكرتم منذ أن كان يحمل عنوان مشروع «المجمع الثقافي» هذا الصرح التاريخي العملاق والمشاريع الثقافية التي تلته، وهي مشاريع مكملة لبعضها وربما كانت حتى سابقة لعصرها، اليوم وبعد أكثر من خمسة وعشرين سنة نجني ثمار ذلك الطموح، وتحديداً من مشروع الكتاب الإلكتروني إلى الترجمة إلى الفنون ليستمر من أجل التطوير إضافة إلى أنه مشروع تنويري عربي.

مشروع صناعة النشر من أول مشاريع المجمع الثقافي وهنا أيضاً نتوقف لنسأل: اليوم وبعدما تحققت هذه الإنجازات ألا يصبح هذا الملتقى، هذا التجمع، ضرورياً للتحاور حول ما تحقق وما هي الرؤية للمستقبل؟ والواقع أنه ومن وجهة نظرنا قد يكون الاعتقاد بأننا قد حققنا منجزاً عظيماً ولكن بالنسبة لسوق صناعة الكتاب قد لا يكون كذلك، قد يكون متواضعاً وقد تكون هناك إشكاليات ترتبط بالتسويق وترتبط بالترويج وبالوصول إلى الجماهير».

تغيّر ذائقة الجمهور يحتاج مناقشة جادة

سعيد حمدان الطنيجي، كاتب ومدير إدارة البرامج في قطاع دار الكتب في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي قال عن مستقبل النشر: «الناشر اليوم يخاطب أجيالاً مختلفة ولا بد أن يستمع لهم فهم شركاء والسؤال لنا كلنا: كيف سيكون الغد، ماذا ينقصنا، ماذا حققنا، وكيف لنا أن نجذب الجيل الجديد وماذا يقرأ وماذا يريد».

وأضاف: «غير أنه ومن وجهة نظري لو اقتربنا من الصورة أكثر فإن ما يمكن أن نصفه بالتخلف في مجال صناعة النشر في عالمنا العربي سببه أن هناك طرفين في صناعة النشر الأول تجاري والآخر الناشر الرسمي، الناشر التجاري ومثلما كنا نرى في معارض الكتب السابقة كان يقدم الكتاب الذي يقود إلى التخلف مقابل الربح، كتب الفتاوى والكتب المحسوبة على الدين والخرافة والشعوذة والهابط من الكتب بينما الرسمية تقدم الدعاية للمؤسسات التابعة لها وهي لا تقدم ما يحتاجه القارئ، الجمهور اليوم تغير وهو ما يحتاج إلى مناقشة جادة لمشروع جديد مناسب لفكره».

وتابع «حين نتحدث عن مشروع الكتاب الإلكتروني كمكمل يمكن تطويره في ضوء مشروع عربي نهضوي عالمي، فهذا المشروع اليوم بحاجة لأن يكون له دعم وتكتل، قوة ناعمة، لكي يهزم الصورة القاتمة لعالمنا العربي اليوم، فالعربي ليس هو الإرهابي ولكنه الإنسان الذي يحمل رؤية وإرثً منفتحاً، يحمل حضارة عظيمة».

Email