تدوين التاريخ الشفهي متعة التوثيق وجمال التواصل مع الرواة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أشرنا في حلقات ماضية إلى أهمّيّة تدوين المرويات الشفهية، وضرورة التسجيل مع كبار السّنّ، والشخصيات المؤثّرة في المجتمع وحفظ حيواتها من خلال حديثها عن شخوصها.

وخلال الفصل الأول من العام الجامعي الدراسي 2017-2018 في جامعة الإمارات العربية المتحدة، درّستُ مساق التاريخ الشفهي، حيث عاشت فيه وخلاله الطالبات تجربة البحث الميداني والنظري، وقمن بتفريغ عددٍ من المقابلات التي أجريتُها مع عددٍ من الرواة في موضوعات مختلفة.

وتعرّفتْ طالباتنا من خلاله على شخصيات مواطنة لعبت أدواراً إيجابيّة في ميادين العمل اليدوي والفنّي والثقافي. وفي هذه الحلقة، أحاول أن أستعرض بعضاً من تعليقات الطالبات في إجابة منهنّ على تجاربهنّ في هذا المضمار، ليتعرّف القارئ على متعة التعامل مع التاريخ الشفهي، وتواصل الباحث مع الرواة في مختلف شرائح المجتمع.

وقد ذكرتْ إحدى الطالبات، أنّ قيامها بتفريغ المقابلة ودراسة الشخصية عن قُرب عرّفتْها بمعلومات إضافية لم تكن معروفة بالنّسبة لها، كما عرّفتْها عن قرب بالصفات الشخصية، والخلفية للأفراد وكانت المقابلة وسيلة مهمة لدراسة الظواهر الاجتماعية للمجتمعات التي لا تعرف القراءة والكتابة وشعور المقابَلين بأهميتهم وبأهمية دورهم في البحث.

وأنّ العمل مع الراوي فيه زيادة قيمة المعلومات التاريخية المحلّية. ويتطلّب ذلك ضرورة الصبر والمرونة والأداء فهي تفيد للتزوّد بالمعلومات ومعرفة الماضي بدواعٍ من المهمات التاريخية التي تزودنا بالمعلومات والتعرف على الماضي.

وذكرتْ الطالبة أيضاً، أنّ البداية كانت صعبة بالنّسبة لها لأنّها في الأول يجب عليها سماع التسجيل ومن بعدها تفريغه بالكتابة على الأوراق، ومن بعدها نقلها على الكمبيوتر، ويجب الانتباه عند الكتابة لتجنّب الأخطاء الإملائية لأنّها تسبّب صعوبة للمتحدّث (الراوي) لعدم الفهم أو الكتابة الخاطئة. وذكرت أنّها ترغب في المواصلة لأنها تجعلها تتعرّف على الماضي ومعرفة الكثير عنهم.

جديدة وفريدة

وقالت طالبة أخرى عن تجربتها الشخصية عن تفريغ المقابلة، بأنّها كانت تجربة جديدة وفريدة بالنّسبة لها، لأنّها للمرّة الأولى تتناول هذا العمل، حيث قامتْ بتفريغ مقابلة الراوي جمعة بن خلف بن بلال الزري، الذي كان من أهم مستخدمي اليازرة ومن أهم المزارعين في زمنه، آنذاك.

وأنّ من انطباعاتها من خلال هذه التجربة، أن فرادتها وجاذبيتها الأهم هي عندما تسمع صوت الراوي وحماسته في وصف وشرح تجاربه، وكأنّها تشاهد فيديو تصويرياً لما يقوله مما سهّل عليها تفريغ المقابلة بحماس ورغبة في استكمالها من دون ملل ومن دون انقطاع. وكانت بدايتها عند اختيار الراوي وعرض ما قاله في التسجيل، ومن ثم التفريغ في الورق. وكانت عمليّة جميلة وملهمة لاستكمال التفريغ بأدقّ تفاصيله، من بداية التسجيل إلى نهايته

. وكان شعورها بعد القيام بالتفريغ شعوراً جديداً وفريداً من نوعه لأنّها المرة الأولى التي تقوم فيها بمثل هذا العمل، وهي تريد أن تعيد هذه التجربة مراراً وتكراراً لوجود الكثير من المعلومات والأقوال والحقائق التي تخصّ الماضي، والتي تخصّنا على البحث الأعمق كذلك، وتفيدنا للمستقبل. ومن الجميل، كما قالت، التعرّف على ماضي آبائنا وأجدادنا، وأكدت أنها تريد أن تواصل العمل وألا تنقطع عنه، لأنه يمكنها أن تكون يوماً من الأيام باحثة في التاريخ الشفهي.

وقالت طالبة ثالثة، إنّه في البداية تمّ تقسيم مدّة المقابلة وهي 3 ساعات، على 6 طالبات، أي كل طالبة تقوم بالتفريغ نصف ساعة. وفي البداية، واجهتْ صعوبة في فهم بعض الكلمات، وبعد ذلك سار تفريغ المقابلة بشكلٍ جيّد، وأشارتْ إلى أنّها تعلّمتْ الكثير من الأمور، سواء من الشخصية أو أثناء قيامها بالتفريغ كتابة، حيث إنّها تعلّمت الصبر والمثابرة والإلحاح، وعند وجود أي صعوبة في فهم الكلمات كانت تقوم بإعادة التسجيل.

وتعلّمتْ كذلك من الشخصية الكثير من الأشياء، مثل: الإصرار وتحدّي الصعوبات في تحقيق الأحلام والنظر إلى انتقادات الناس البنّاءة بعين الاعتبار لتطوير نفسها..والعمل على تطوير ذاتها من أجل تحقيق أهدافها والمساهمة في المجتمع. وهي تريد المواصلة في هذا الجهد لما غرسه فيها من صفات إيجابية، كالتعاون والصبر والإلحاح.

وذكرتْ طالبة أخرى أنّ تجربة التفريغ كانت تجربة جديدة بالنسبة لها، وأنّها في البداية كنت غير متحمّسة للتفريغ لأنه شيء جديد، ومِن ثَمّ تشجّعتْ كثيراً من بعد التفريغ، ومن أهم المشاكل التي واجهتْها، بينت أنها تتمثل في تحدّث الراوي والمقابِل في وقت واحد، إذ لم تتمكّن بفعل ذلك، من التفريغ، ولكن مع إعادة التفريغ عدة مرات استطاعت تخطّي هذه المشكلة.

وتملّكها شعور بالرضا، وقامتْ بعملٍ جديدٍ وجميل، ومع سماعها للراوي كانت متحمّسة أكثر لتكملة باقي التفريغ، لأنّها استفادت الكثير من المعلومات الجديدة عن تراث الدولة، وأيضاً استفادت كثيراً من تجارب الراوي والإصرار على التعلّق بالماضي مهما تطورت بنا الحياة، وذلك طبقاً لمقولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: «اللي ما له ماضي، ما له حاضر».

وأوضحت أنها تطمح مستقبلاً إلى القيام بإجراء المقابلات وتفريغها. وقالت طالبة أخرى، إنه لمّا قام الدكتور حمد بتوزيع المقابلات وطلب منّا تفريغها، اخترت مقابلة سعيد بوميان.. وأشارت إلى أنها كانت متحمّسة جدّاً لمعرفة ما يقوله هذا الرجل عن المأثور الشعبي لدولة الإمارات، ولمّا فتحت المقابلة ورأتْ أنّ مدّة هذه المقابلة ساعة وعشرين دقيقة تقريباً.

ففي البداية تفاجأتْ كثيراً لأن هذه المدّة لا تعتبر قصيرة وتحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ لسماعها، ومِن ثَمّ تدوينها وتفريغها، ولكن عندما استمعتْ للتسجيل اندمجتْ في المواضيع الذي كان يتحدّث عنها وعن أعماله في المسرح والفنّ في رأس الخيمة، ولم تشعر بالوقت الذي يمرّ وهي تستمع له، وهي مستمتعة بأحاديثه لأنّها منذ صغرها وهي تهتم بالتاريخ وبتراث دولة الإمارات خاصّة.

حيث تشدّها المواضيع التي تتكلّم عن تراث وتاريخ دولة الإمارات، وتحب مجالسة الكبار في السّنّ وسماع قصصهم، لكنها، بصراحة، لم تكن تعرف عن أهمية تدوين التراث والتاريخ، ولكنها لفتت إلى أنها في المستقبل، وبمشيئة الله، ستضع لها مذكّرة أو كرّاسة صغيرة لجمع المواد الشعبية لتكون عندها حصيلة شعبية.

40

وحكت طالبة مشاركة أيضاً، عما خبرته وعايشته في خوض هذا المضمار، موضحة أن تفريغ المقابلات يحتاج بذل الجهد والتركيز، وتخصيص الوقت الكافي لتفادي الأخطاء أثناء التفريغ، وكان انطباعها هو أن التفريغ يجب أن يتم من خلال شخصٍ دقيق ويحدق بأهم التفاصيل الصغيرة.

وكانت بدايتها هي التفريغ من أول المقابلة.. إلى أن أتمّتْ 40 دقيقة من زمنها، وكان الراوي لبقاً في حواره ووصلها شعور بالنجاح والإصرار الشديد برغم الصعوبات التي واجهها الراوي (إبراهيم بو خليف).

وكانت تجربة ممتعة عادت عليها بالفائدة، إذ تعلّمتْ كيف كانت بدايات الفنّ المسرحي قديماً في الإمارات وأهم الأشخاص على الساحة في ذلك الوقت، كما أنّها ترغب في تفريغ مقابلات أخرى نظراً لما شاهدتْه من معرفة بالرغم من صعوبات التفريغ وبعض الأخطاء أو كيفية تفادي الخروج عن النّصّ.

وأشارت طالبة أخرى إلى أنّ تفريغ المقابلة كان بالنسبة لها صعباً في البداية لأنها شيء جديد عليها. وبعد إنجازه تعرّفتْ على عدة أمور في أحد الرواة، والذي يعتبر نموذجا متميزا، حيث وصل إلى الوزارة بفضل الله وإخلاصه في العمل.

شعور رائع

ولفتت طالبة أخرى إلى أن تجربتها في تفريغ المقابلات كانت جيدة جدّاً، وكان التفريغ عن مقابلة الراوي إبراهيم بو خليف، إذ إنّ كل طالبة في مجموعتها أخذتْ جزءاً من المقابلة لتفريغها.

وطبعاً في البداية واجهتْها بعض الصعوبات لعدم فهم بعض الكلمات التي تقال، أو أحياناً يقوم الراوي بعدم تكملة الكلام الذي يقوله، وكانت البداية جيدة واستمتعت كثيرا بإجراء التفريغ للمقابلة وعندما استمرت في تفريغ المقابلة وتواصلتْ في هذا التفريغ أصبح العمل أكثر سهولة بكثرة الاستمرار والتدريب على تفريغ المقابلات.

وكان شعورها بإجراء هذا التفريغ رائعا، خصوصا وأنها استطاعت بكل سهولة فهم كيفية التفريغ والتعرّف على معلومات مفيدة أكثر حول كيفية القيام بإجراءات التفريغ، وذلك للتعرف على التاريخ والأحداث التي مضت وإخبارنا بمعلومات تفيدنا.

ويمكن لم نكن نعرفها من قبل، ولفتت إلى أنها ترغب كثيراً بالاستمرار في هذه التجربة: القيام بتفريغ المقابلات، حيث عرفت الكثير من المعلومات المفيدة التي قام الراوي بذِكرها، وفي النهاية استفادت من هذه المقابلة في الاستمرار في تكملة ومواصلة مشوار تحصيلها العلمي، لأنه العلم سر النجاح في الحياة.

تجربة مفيدة

«كنت أستصعب عملية التفريغ -تفريغ المقابلات مع الرواة- بسبب سرعة تحدّث الراوي، ولكن مع الوقت، أصبحت العملية سهلة». هذا ما أكدته طالبة مشاركة في بحث متخصص أشرفت عليه أخيرا، وكان انطباعها عن هذا العمل في البداية أنه صعب ومكلف في الوقت والجهد.

وتتابع: مع مرور الوقت، عرفتْ أن عملية التفريغ ممتعة وليست صعبة، بل شائقة ومفيدة جدّاً لأنني تعلّمت من حياة الراوي وطموحاته والكثير من الأشياء. إنها لتجربة جميلة ومفيدة كثيراً. ومن الممكن أن أعيدها فانخرط بأبحاث متنوعة في المجال.

مَهمّة التحديات

أوضحت طالبة شاركت في بحث أشرفت عليه خلال الفصل الأول من العام الجامعي الدراسي الحالي في جامعة الإمارات العربية المتحدة، ضمن حقل التاريخ الشفهي، أنّها قبل تفريغ المقابلات التي أجرتها، أحسّتْ أنه لن تكون في البحث تلك الصعوبة، ولكن ما إن بدأت فإذا بها تجد أنّه عمل صعب ويأخذ الكثير من الجهد والوقت، غير أن الراوي في بعض الأوقات يتحدّث بطريقة غير مفهومة.

ولذلك توجّب عليها إعادة سماع التسجيل عدّة مرّات حتى تسمع الكلمة بوضوح، ورغم أنّها فرّغت فقط نصف ساعة من زمن المقابلة، لكن استغرقت اليوم بأكلمه في تفريغه.

وبعد الانتهاء من ذلك الجزء، قامت بالمراجعة وكانت أسهل بكثير من التفريغ، حسب ما أشارت، رغم ذلك أحسّتْ ببعض المتعة أثناء حديث الراوي لبعض المواقف. ولكنها عرفتْ أنها ليست بالوظيفة السهلة، خاصّة وأنه على الباحث إجراء المقابلة ومن بعدها التفريغ والمراجعة وإنشاء قصة مترابطة.

حكايات الأجداد

تعترض الباحث المبتدئ في مجال التاريخ الشفوي، بعض الصعوبات والعقبات ربما تكون فنية الطابع في مجملها، وهو ما تؤكده طالبات شاركن في البحث المذكور، حيث تشرح إحداهن:

كان مصدر الصعوبة التي واجهتني بداية، تداخل وتشعب الأحاديث وتشابك النقاط المطروحة مع الراوي خلال المقابلة.. وهو ما عقد الأمور عليّ حين تفريغي المقابلة.

ولكن بعد ذلك أخذت الوقت الكافي لسماع المقابلة مراراً وتكراراً، حتى تمكّنت من فهم المقابلة بشكلٍ جيّدٍ. وبينت الطالبة، أنه بعد ذلك تم التفريغ، ولكنها احتاجت وقتاً كثيراً نظراً للمراجعات والتحقق المطولين. وختاماً، شعرت بفرحة كبيرة ووجدتْ في ذلك أجواء محفزة وباعثة على السرور.

ولفتت الطالبة نفسها أيضا، إلى أنها أحسّت بقيمة التقاء المقابَلين، مبينة أنها وظيفة شائقة تمكننا من الاطلاع على تاريخ الأجداد ومراعاة مشاعرهم وحكاياتهم .. وما واجهه أسلافنا. وأشارت أيضاً، إلى أنها ترغب بالمواصلة في المجال عند التخرج.

 

Email