الفوعة..عناق الماضي والحاضر تحت سـقف النخيل

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

نذهب عميقاً في دروب الخير والوفاء للوطن وإنسانه.. نتجول في ربوع البلاد بحثاً عن منابع التميز، عن إمارات الرضا والسعادة، في عيون الأطفال والكهول.. نلتمس مكنونات هذا الشعب الكريم، في قراه البعيدة وبواديه وضواحيه، حيث النقاء والأصالة، نقف على آثار الماضي ونمط العيش الجديد، لنشهد كيف حدث ويحدث التحول التاريخي العظيم من حياة البساطة إلى حياة الرفاه والمعاصرة، دون خسران للهوية الغالية. «البيان» في هذه السلسلة تجالس الناس، تستعرض طواياهم الجميلة، تقاسمهم الماء والخبز والذكريات.

الفوعة كانت وجهتنا على «دروب الإمارات» في الموسم الجديد «الثاني»، ففي صباح 25 أكتوبر 2017م جذبنا هذا الاسم المتفائل الذي أطلقه عليها المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بعد أن كان اسمها العوهة سابقاً، والاسم الجديد يعني التفتق وانبثاق النبتة، تماماً كما يليق بزايد الخير والنماء.

الضاحية المشرقة من ضواحي العين، لا تبعد عن مركز المدينة أكثر من 20 كيلومتراً، على طريق دبي، وأول ما يستلفتك فيها عناق أشجار النخيل والغاف بجانب النوافير ذات الطابع الأندلسي والأزاهير المستجلبة لتزيين طرق وميادين هذه المدينة الشهيرة بالخضرة والماء والوجه السمح.

وفي سياق طابع العين السكني فإن الأبنية في الفوعة تتواضع بأناقة، ولكن الهدوء يعم الشوارع مثله مثل الورد والنسائم الشتوية الهابة توّها من البر الفسيح بعد أن تضمخت بالأفلاج والواحات المتناثرة في كل مكان.

ولأن العين هي «دار الزين»، فما إن تذكر حتى تطل صورة وسيرة وسريرة القائد التاريخي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في أكنافها الخضراء ظهرت وتفتقت مواهبه القيادية الباهرة حينما أدار المنطقة الشرقية سنين عدداً منذ عام 1946م، فلا غرو أن تفجرت على يديه الطيبتين الأفلاج، ونبعت الطويان فازدهرت الواحات النضيرة، ليسعد الناس بالنعم حتى قبل ظهور النفط وقبل أن يتولى زايد مقاليد الأمر حاكماً على كل إمارة أبوظبي عام 1966م ثم مؤسساً للإمارات العربية المتحدة كافة عام 1971م.

هيلي المزدهرة

ولكون الحدائق الغناء سمة هذه المدينة التي جمعت في أطرافها الصحراء والجبال والينابيع والشجر، فقد عمدنا إلى النزول بمنطقة هيلي المزدهرة، إلى جوار حديقتها ذات الصيت، فهنالك كانت تترقبنا الأشجار الوارفة وينتظرنا الشاعر المعروف خلفان بن نعمان الكعبي الذي أنشأ «فريجاً» تراثياً متكاملاً أطلق عليه «سوق هيلي الشعبي» حيث تجتمع مفردات التراث من منيور وقلعة وأفلاج وعراقيب وأدوات صيد ومساكن قديمة ببراجيلها ودرايشها العتيقة وحتى الحظيرة والمسجد والطوي.. وكل ذلك وغيره بتصاميم تتمثل الماضي في أبهى صوره، وسيكون موعد الافتتاح متزامناً مع احتفالات شعب الإمارات باليوم الوطني في ديسمبر المقبل.

الشاعر خلفان بن نعمان الكعبي «بوناصر» فضلاً عن تجربته الشعرية الطويلة فهو ذو إسهامات ملموسة على صعيد إنشاء وإدارة مجمعات الآثار الفولكلورية، فمنذ 2007 أقام قرية تراثية واسعة من حر ماله وجهده وأفكاره في حي «خطم الشكلة» بالعين انطلاقاً من حسه الوطني وحبه لأصالة شعبه.

وهذا المجلس الذي اجتمعنا فيه داخل القرية بني من الطين اللبن وخشب الأشجار المحلية «النخيل والسمر والغاف والسدر» ويستخدم الفنر للإضاءة، أما أبوابه ونوافذه فخشبية، ومقاعده كذلك ويبلغ طول البارجيل 7 أمتار، ومن أقسام المبنى الليوان «المدخل» والحوي «الفناء الداخلي».

شيء في خاطرك؟

بدأنا الحديث مع «بوناصر» كما ينبغي أن يبدأ بزايد، فسألنا عما إذا كانت له تجربة شخصية في التواصل مع الشيخ زايد؟

فقال: في يوم لا أنساه، كنت أنا واثنان من الشعراء في مجلس زايد، رحمه الله، نحمل قصائد جديدة تعبر عن حبنا وتعظيمنا لدوره الوطني، نريد أن نلقيها بين يديه، وكان هو منشغلاً بمتابعة الأخبار عبر التلفزيون، وعلمنا من منظمي مجلسه في قصر البحر أنه سيغادر بعد قليل إلى عمل مهم آخر، ولأنني كنت سعيداً بمستوى قصيدتي ومضامينها فقد قلت لنفسي لا بد أن ألقي عليه قصيدة.. فتقدمت ومثلت بين يديه، فقال لي: نعم.. شيء في خاطرك؟ فقلت لدي قصيدة أريد أن ألقيها عليك، فقال لي نسمعها وأوقف نشرة الأخبار تقديراً لخاطري، وكان ذلك إفساحاً للمجال، فأعقبني أصدقائي وقرأوا عليه أشعارهم، فسعد الوالد بذلك أيما سعادة وكافأنا وخرج.

على هذا النهج كان يعامل أبناء شعبه، يقدر مشاعرهم ويبسط لهم جناح الرحمة، ومن أجلهم يضحي حتى بلحظات راحته ويحقق لهم مرادهم.

ويمضي الشاعر خلفان بن نعمان قائلاً: زايد إنسان يتقاصر دونه المدح، ويكفي أن كل خير في الإمارات بدأه هو أو دل عليه أو ربى الشيوخ على القيم والشيم التي جعلتهم ينجزون كل هذه الإنجازات في ظل الاعتناء بالأخلاق والتواضع الجم ووحدة الكلمة.

انتقل زايد إلى الرفيق الأعلى بعد أن غيّر الله به حال هذا الشعب من الفاقة إلى الرفاهية تاركاً وراءه أهم أثر يتركه قائد خلفه، وهو صفاء النفوس ونقاء القلوب، فلا نزاع ولا شقاق متواضعين نقبل ونحترم رأي بعضنا، هذا ما يضمن استمرار تماسكنا وتقدمنا إلى الأمام بخطى واثقة، بما جعلنا نتجاوز شعوباً أخرى كثيرة، وبالفعل تحققت رؤية الشيخ زايد ومقولته التي مفادها أن: الاستثمار الحقيقي في الإنسان وليس في المصانع.

مزايا العين

سألنا بوناصر عما يميز العين وإنسان العين بين مناطق الإمارات الأخرى فقال: العين بستان كبير، ويكفي أنها كانت «مقيض» لأهل الإمارات في سابق الزمان، بما تنطوي عليه من عيون عذبة ونخيل وما أعلمه من أفلاجها يتجاوز العشرين منها: فلج هيلي هذا المكان الذي نحن فيه في جانب من جوانب الفوعة، وهنالك الصاروج وهو فلج سمعنا أن الشيخ زايد اشتغل في شقه وتهيئته بيده حينما كان حاكماً على العين، وهنالك فلج القطارة والداودي والجاهلي وفلج العيني والمويجعي والجيمي والراكي ومزيد وبوسخانة والمعترض.. الخ، وبأسماء هذه الأفلاج جرت تسمية أحياء العين.

كل هذا وفر بيئة زراعية وسياحية مستقرة تأوي إليها الأفئدة من كل حدب وصوب منذ قديم الزمان، وهذا بدوره أفرز إنسان العين، فنحن هنا باختلاف قبائلنا نعيش عيشة الأسرة الواحدة متحابين ومتفاعلين نهوى وطننا وقيادتنا الرشيدة التي لم تدخر وسعاً من أجل إسعادنا وضمان الحياة الكريمة لنا جميعاً.

قصيدة جميلة

«هدية الروح» هي إحدى القصائد الحسان التي ذاع صيتها من أشعار خلفان بن نعمان يقول فيها:

عاشرت دنيا الشوق فعيون معشوق

                         لي سلهمت عادت لي ذكرياتي

أنا شفوق وظامـــري هزه الشوق

                           وسعد لقاء عشته يجدد حياتي

كفي بكفه والحشا كم له يتــــــــوق

                           توق الذي عاشق وليفه شراتي

أنا هويته زد ربعـــــي والخلــــــــــوق

                             غالي وانا قـلبي هـديته غنـاتي

أنا اشــــــهد انه عالمـــزايين بيفوق

                            حســـنه وفايق بالذكا والصفاتي

عالي الجناب وله على قلبي احقوق

                           حلو الهدب خلي حبيبي وشفاتي

لمسة اناملهم شفى مخطر العوق

                        تشفي المريض اللي شكا الحسراتي

فنون شعبية

مجلس بوناصر الذي حضرناه في الفوعة استمعنا خلاله إلى أداء جميل من جانب شاعر الشلات مرشان عبد الله بن نعمان الكعبي وهو شاب في الثلاثين قضى في فن الشلة نصف عمره وحضوره على اليوتيوب بارز. ومن آثاره الفنية واسعة الانتشار شلته التي على كل لسان شاب هذه الأيام:

إنت زيارتك من الحول للحول

             تضوي شهر عشرة وترحل في عشرة

وباقي السنة مشغول مشغول مشغول

                         مليت من بعدك ومليت عذره

وأما الشاعر ناصر سليمان الدرعي من أبناء الفوعة فقد بدأ أداء الشلات منذ أربع سنوات، قال إن فطرته ومحبته للتراث والأصالة من دواعي انشغاله بأداء هذا الفن الذي برع فيه وشارك به في فعاليات بالعين «مهرجان مزاينة حمراء الدروع» في عبري العمانية.

كما شارك في أداء الشلات حمد اليحيائي الذي أدى شلات لمانع سعيد العتيبة «نسمة حب» وراشد شرار وله مشاركات داخل الدولة وخارجها.

شاعرنا نفسه خلفان بن نعمان أدى لنا ونات في مجلسه العامر بطيب الكلام وبكرم الضيافة العربية التي أحاطنا بها باستمتاعنا بأنواع من الأطعمة الإماراتية الشهيرة كالثريد والهريس وغيرهما.

وحدثنا عن الأنواع الأخرى من الفنون الشعبية بجانب الشلة والونة فذكر:

فن «الرزيف» وهو من فنون البادية، ويؤدى هذا الفن في أعراس البدو وفي غيرها من المناسبات مثل استقبال الحاكم. ومن مميزات هذا الفن أنه لا يصاحبه أي لحن موسيقي، بل هو (رزيف) أي يرزفه المؤدون بدون إيقاعات أو آلات مصاحبة، وتقترب لغة الرزيف وهزجه من الفصيح، وهذا الفن من الفنون الجماعية التي تؤدى بطريقة حماسية، ويؤدى عادة بعد صلاة العصر حتى ما بعد العشاء، ويغلب على أداء هذه الرقصة الأداء الجماعي، وتردد في الرزيف قصائد الفخر والنخوة، وبعضها يحتوي على أغاني الحب.

وأما «العيالة» ففن جماعي يتضمن رقصاً وغناء جماعياً، وتؤدّى «العيالة» في كل المناسبات الاجتماعية والوطنية، كما يحرص المسؤولون في دولة الإمارات على إبرازها وتقديمها أمام رؤساء الدول وكبار الزوار الذين يزورن الإمارات باعتبارها الفن المحلي الأكثر تجسيداً لتاريخ وخصائص الدولة. و«العيالة» هي رقصة الحرب العربية أو بتعبير أصح رقصة الانتصار بعد الحرب، وتسمى «بالرقصة الشريفة» أي لا يؤديها إلا العرب الخلّص الشرفاء. يشترك في أداء «العيالة» الفرقة المحترفة والهواة أيضاً من المدعوين والحضور. وغالباً ما تكون فرقة العيالة مقصورة على العازفين على الطبول والدفوف والطويسات «الآلات النحاسية» وبعض المنشدين والراقصين ويشاركهم في الإنشاد والرقص بعض الحضور الذين يحبون ويعشقون هذا الفن.

وبالنسبة لفن الطارج فهو غناء يتضمن قصائد في وصف الطبيعة والحياة وكذلك عن الأحداث العامة، وتلحن بلحن عذب يعطر الأسماع ويريح النفس والقلب، كما يعد هذا النوع سلوى للمسافر والسائر عن وحشة الطريق.

وفي «التغرود» ينشد القوم أغاني (التغرودة) وهم على ظهور الهجن مرتحلين من مكان إلى آخر، أو مسافرين في رحلة تجارة، بينما النوق تخب أو تهرول وهذه تسمى بتغرودة البوش.

لقطات عامة:

Ⅶالمتجول في القرية تستلفته خيمة مميزة التصميم تتخذ صورة هرم مصنوع من جريد النخل، وداخلها محفور بعمق متر لتحصيل الدفء في الشتاء.

Ⅶالجنز عبارة عن حجرة تستخدم مستودعاً للتمور صنعت من الجص أو الحجر وسقفها من جريد النخل.

Ⅶمجسم روح الاتحاد يتوسط سوق هيلي الشعبي وفيه الصورة الشهيرة التي تجمع الآباء المؤسسين في لقطة تذكارية أخذت يوم توقيع اتفاقية اتحاد إمارات الدولة عام 1971م في دبي.

Ⅶالمسجد القديم الذي بني بالحطب والجريد على طرف القرية يوحي بالتواضع ومساحته لا تتجاوز الخمسة في خمسة أمتار.

بورتريه

الشاعر خلفان بن نعمان الكعبي «بوناصر» يقول عن نفسه: جميع أفراد عائلتي شعراء، ووالدي كان من مؤسسي مجلس شعراء المنطقة الشرقية «العين» في تلفزيون أبوظبي، ومن عائلتي الشاعر المعروف كميدش بن نعمان الكعبي الذي تغنى بشعره علي بن روغة وميحد حمد، وكبير العائلة محمد بن نعمان الكعبي، فضلاً عن عبد الرحمن بن نعمان الكعبي. وفي أجواء الشعر هذه نشأت وترعرعت وفي عام 1978م كنت طالباً في مدرسة عمرو بن العاص العسكرية في المنامة بعجمان وهناك أشرقت مواهبي الشعرية ولاحقاً انضممت إلى مجلس شعراء دبي مع راشد شرار، ثم بعد تطور وتجارب قدمت برامج تراثية منها «نبع التراث» في إذاعة أبوظبي، وبرنامج «مجالس الشعراء» في قناة الواحة.

 

 

Email