رسومات تصويرية جرى تداولها قبل اختراع الأبجدية

اللغة التصويرية أو المرسومة كانت هي المستخدمة بين المبحرين من التجار والمسافرين قديمًا في سواحل الخليج وقبل اختراع الأبجدية، واللغة التصويرية كانت أشبه برموز معبرة عن الإنسان والمكان بممتلكاته وأرقامه مرورًا بالمشاعر العاطفية والمعتقدات، لتمضي السفن بملاحيها وتتبادل من خلال هذه اللغة تجارتها وصفقاتها. ونحن هنا اليوم نستعرض هذه اللغة المصورة اعتمادًا على ما تم كتابته رسمًا على الأختام الخليجية القديمة في متاحف الكويت والبحرين وغيرها، والتي تصل في عمرها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، أي قبل اختراع الأبجدية الأولى (المسمارية) من قبل السومريين في جنوبي العراق المطل على الخليج.

رسومات

من الطبيعي أن تتطور لغة الإنسان بتطور حياته الاجتماعية، ومن الطبيعي أيضاً أن تحمل هذه اللغة ملامح هذا الإنسان النفسية والثقافية والعقائدية... أخذ أهل الخليج يُعبرون عن حياتهم بتلك اللغة التصويرية، والتي تهمنا اليوم، هذه الرسومات التي عبرت عن أهل الخليج في ذلك الوقت، فالسفينة المرسومة تعني سفينة، وبأنواعها المختلفة، من خشبية وألواح شراعية، إلى سفينة ذات دفة، وأخرى مصنوعة من أعشاب قصبية، وغيرها ذات الشراع المثلث، لترسم بشكلها بدل المفردة.

الشمس

وجدنا في تلك الأختام الكثيرة نقوشاً عديدة لمربع بداخله أربعة مربعات، ليعبر هذا الشكل عن المعبد، وبالتحديد معبد الشمس الرامز إلى معبد إله الشمس، لكن التعبير عن المعبد أخذ أشكالاً أخرى ومختلفة رغم أنها بقيت كلها في ذات الأشكال الهندسية من مربع أو مستطيل أكبر حجمًا بداخله مربعات عديدة وبأعداد أكبر، لتبدو لنا أنها معابد بأحجام مختلفة.

ولا شك في أن رسم الشمس وبأشكالها المتنوعة في تلك الأختام كانت الأكثر وفرة، فأحياناً دوائر بأطراف حادة وتارة تكون دوائر تخرج منها شرارة أو مثلثات لتوضيح اشتعالها الضوئي، بالإضافة إلى رسم شخصين يقفان أمام عمود برموز أو عمود في أعلاه حقلة تتوسط الشمس، وكأنهما يصليان للقرص في وقت مُعين، مرورًا ببعض الشموس التي رُسمت على سيماء النجوم في أطرافها الحادة، لتبيان قدرة نورها وشرارتها، وأشكال أخرى بالعشرات لهذا القرص المضيء.

لغة أهل البحر

وتمضي بنا اللغة المصورة لمنتجات البحر من اللآلئ وقشر السلحفاة، والمرجان الأبيض. غواصون يصيدون اللؤلؤ، إلى لغة تصوير الأخشاب والمعادن والمنتوجات الزراعية والحيوانية وأحجار... مرورًا بالموسيقى وأدواتها المستخدمة من مزمار والكنارة والجنك، إلى علم الحساب والفلك وعلامات الضرب في شبكات هندسية، إلى المعداد وجداول الأعداد التي تسمى اليوم آلة المحاسبة، والتي كانت تعمل على نظام الخمسي.

أزياء

لم تخلُ النقوش التصويرية من التعبير عن أزياء المنطقة وملبوساتهم وتشكيلات الشعر وأغطية الرأس من قبعات متنوعة، من قبعات الملوك إلى قبعات العامة من النساء والرجال وتسريحات الشعر وثياب بحركات مختلفة، قصيرة وطويلة وحواشي وساري وذو طبقات، مع رسم تلك الأدوات التي نسجوا بها، بأشكالها المخترعة.

عبرت الكتابة التصويرية عن الحياة في الخليج والمنطقة لتعيش من خلال هذه الرسومات وتتبادل حولها التجارة والدين والمراسلات السياسية، وهي المناطق التي نستطيع أن نحددها من جبال مسندم على مدخل المضيق الجنوبي مرورًا بالإمارات إلى قطر والبحرين والكويت وفيلكا وجنوبي العراق وجنوب شرقي إيران إلى نهاية المضيق باتجاه الشمال.

كواكب

أهل الخليج الضليعون في الإبحار وفهم مداخل علم الفلك وخصوصية معرفته، يرسمون الكواكب برموزها الحلزونية المرتبطة بالحسابات الفلكية، تمثلت في الشمس المنقلبة صيفًا وشتاءً، فهناك 12 ختمًا تفسر في رسوماتها الحلزونيات التي تقصدت في قراءتها الطقس من استمطار وهواء.

وبلا شك فإن نماذج الصور كثيرة لآلهة الحب أنانا زوجة إله الشمس، وأكثر تلك الأختام كانت قد تم التركيز على كوكب الزهرة لأنه النجم الذي يمثل المحبة، أما الأبراج الحيوانية في السماء فكلها تم تصويرها على دائرة مقسمة ومتصلة مع أرقام في زواياها المقسمة والصغيرة في قُطرها، لتوضيح البروج القمرية، وتتبين الأحزمة الفلكية للكواكب السيارة مع 12 شهرًا فلكيًا، إلى رسم الأرض.

ترميز

لكن مع الوقت تتحول اللغة التصويرية المباشرة إلى لغة تصويرية ترميزية، ليرسم الغزال بعد تجسيده ويتحول إلى رمز، والمرأة إلى مثلث، والذكر إلى وعاء، والقلب إلى مربع مائل وبداخله مربع صغير، والخراب إلى مربع غير مكتمل وبداخله عمود وعليه خربشة، وإن كان الشخص طيبًا وحلوًا فإنه يرمز بمربع مائل، وما هو محفوظ في المخزن يتم رسم ممر وكأنه ممر لمجرى الدبس.

تجارة منظمة

حضارات الخليج كانت تجارية ومنظمة وذات رسالة، كما أتى ذلك في مجموعة أختام دلمون المعروضة في متحف البحرين الوطني، وأختام فيلكا والكويت، وفي كتاب تاريخ العراق القديم في جزءه الثاني، كما أنها منطقة تجارية وأهلها وساكنوها من التجار على الدوام، يعيشون على ثقافة علوم البحر، حسب الدلالات اللغوية التصويرية، والأشكال المدمجة في رسومات مزخرفة بجانب بعضها البعض.

وأخيرًا لم يتطور نظام الكتابة إلا بعد اختراع الأبجدية (المسمارية) في مدينة أوروك ببلاد سومر في جنوبي العراق ذات العلاقة الوطيدة مع البحر، كما ورد في تقارير الحفريات الأثرية في الخليج، لتبدأ رويدًا رويدًا الكتابة المسمارية في لغتها السومرية تبدأ بالظهور في الرسائل المتبادلة بين سواحل وجزر الخليج.

وأخيرًا تمضي السفن في الخليج للتجارة والسفر منذ آلاف السنين، لتبحر في أسفارها بين الحضارات المختلفة، لتتبادل مع العالم اللغة التصويرية فكانت السفينة أول وسيلة سريعة وسهلة للنقل وللوصول إلى الشعوب الأخرى، الانفتاح كان من سمات البحارة، وكذلك الشجاعة الضرورية للقيام بالرحلات الطويلة، ليأتي السومريون وهي أول حضارة في بلاد الرافدين وتطل جنوباً على بحر الخليج، ليأتوا بالسفن من الخليج، بعد أن ذهب أهل الخليج كملاحين إلى سواحل بلاد الرافدين، فكان تنظيم المواصلات البحرية منذ البدء وقبل اختراع الأبجدية في بلاد سومر، كانت الكتابة تصويرية ورسومات، فنقاشنا هنا التعرف إلى لغة أهل الخليج المكتوبة منذ أكثر من خمسة آلاف عام.

علم الحساب وجدول الضرب قديماً

أنظمة الحساب بين التجار المبحرين وأصحاب السفن في بحر الخليج التجاري قبل خمسة آلاف عام كانت تقوم على الاستيراد والتصدير بين المراكز التجارية على السواحل، من بلاد الرافدين إلى ماجان، مرورًا بموانئ الخليج لإجراء مبادئ الحساب واستنتاج الأرقام في تلك الصفقات التجارية الضخمة والمتبادلة.

تم إيجاد حسابات بمجاميع عديدة على الأختام، أغلبها عمليات ضرب مسجلة في عدة أعمدة، من عمود إلى سبعة أعمدة. عملية حسابية في مربعات استخدمها الخليجيون الأوائل لتسهيل تجارتهم وأرباح بضائعهم.

تم العثور على العمليات الحسابية نفسها في حضارات شمال أفريقيا، وحضارة الجزيرة الأيبيرية في إسبانيا، بعد القرن الأول الميلادي، لكن حضارة الخليج المتمثلة بدلمون وماجان قد سبقتها في استخدامها بكثير، أي في الألف الثاني قبل الميلاد.

هذا المعداد القديم جدًا كان له القدرة على العد إلى الرقم 24 يتم إدخال الرقم في جانب من اليمين الذي يحتوي على جوانب عديدة صغيرة ليتم إدخال الرقم في الثقوب الواحدة تلو الأخرى حتى يصل إلى العدد الأكبر ليمنحه النتيجة.

حساب بسيط وسهل، وأسرع من اليد، لحاجة التجار والملاحين إلى العلوم الأولية بهدف الاستنتاج لأعداد ضخمة.

5200

بعد اختراع الأبجدية السومرية وتداولها بين المبحرين، أخذت تحل محل اللغة التصويرية التي بلغت أكثر من 5200 سنة وبدأت في الاختفاء.

4000

تم اكتشاف رسم تصويري ببعض الأختام للقيثارة الخليجية تعود إلى أربعة آلاف عام، وهي تسمى في الخليج بالكنارة، تُعزف بريشة العاج.

1

رغم أن مياه الخليج معروفة بوفرة ثروتها السمكية، ورغم أنها المصدر الرئيسي للرزق في الخليج، لكن لم نجد سوى ختم واحد فقط نُقشت عليه سمكة.

تابعوا فكر وفن من البيان عبر غوغل نيوز