أشعار العرب خزائن عطر تعبق بدلالات انفتاحهم الحضاري

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يواصل الشّعراء الجاهليّون والمخضرمون والإسلاميّون، إشاراتهم إلى المنتجات القادمة من بلاد الشرق، إمّا وصفاً لها، وإمّا مدحاً لها، وإمّا تغنّياً بها، وإمّا إشادة بها. ومعها، وفي كلّ أحوالهم ينقلون ما في بيئاتهم من مظاهر ومعالم، تفيدنا كثيراً في تتبّع الحياة العربيّة الجاهليّة، وفي القرنين الأولين للإسلام.

وهي في الوقت نفسه تؤكّد لنا اتصال بلاد العرب بالعالَم الخارجيّ، تبادلاً للسّلع، أو تواصلاً للثقافة، مما يشير إلى تميّز موقع بلادهم بين حضارات العالَم الذي شهد آنذاك انتشاراً للأفكار والثقافات واللغات والعادات.

وفي هذه الحلقة نواصل ذِكر نماذج مهمّة من هذه المنتجات التي وردت الإشارات إليها في الأشعار.

أولاً، السّفن الهنديّة:

وورد ذِكرها عند جرير بن عطيّة في قوله:

وشبّهت الخدوج غداة قو

سفين الهند روّح من أوالا

ولبيد بن ربيعة (ت. 41 هــ):

كسفينة الهنديّ طابَقَ درْءَها

بسقائفٍ مشبوحة ودهان

فالتأم طائقها القديم فأصبحت

ما أن يقوم درءها رِدفان

ثانياً، الياقوت والذهب والزمرّد والجزع والأحجار الثمينة الأخرى:

«الزمرّد» أنواع وألوان متعدّدة، مع اختلاف في قيمها وأصالتها. ويوجد من أنواعه في الهند. وهو متميّز في صفائه وصلابته واخضراره. و«الجزع» وهي من الأحجار التي تُستَعمل في الفصوص التي توضع في الخواتم، وربما تحفر عليها كتابة أو صور. ومن ألوانه: الحمراء والخضراء والسوداء والبيضاء.

قال الأعشى:

مَن يلقى هوذة يسجد غير مُتّئب

إذا تعصّب فوق التاج أو وضعا

لــه أكاليــل بالياقوــت زيّنهــا

صُوّاغها لا ترى عيباً ولا طبعا

وقال المرقّش الأصغر (ت. حوالي 50 ق.هـ.=570 م.):

تحلّين ياقوتا وشذرا وصبغة

وجزعــا ظفاريّــا ودُرّا توائمــا

وقال مالك بن نويرة (ت. حوالي 12 هـ.=634 م.):

لن يذهب اللؤم تاج قد حُبيت به

من الزبرجد والياقوت والذهب

وقال أمرؤ القيس في الجزع:

فأدبرن كالجَزْع المُفصّل بَيْنَه

بِجِيْدِ مُعمٍّ في العشيرة مُخْوَل

وقال حاتم الطائي (46 ق.هـ.=578 م.):

وعلّقن في أعناقهن لناظر

جمانــا وياقوتـــاً ودرّاً مؤلّفـــاً

وقول الشاعر عمرو بن أحمر الباهلي (ت. حوالي 65 هـ=685 م.) يصف الياقوت ولمعانه وإضاءته بقوله:

جمان وياقوت كأن فصوصه

وقود الغضا زان الجيوب الروادعا

وقال النابغة الذبياني:

بالدّرّ والياقوت زُيّن نحرها

ومفصّل من لؤلؤ وزبرجد

العاج:

يقول فيه عنترة:

من كلّ فائقة الجمال كدمية

من لؤلؤ قد صُوّرت في عاج

وبشر بن أبي خازم الأسدي:

وأضحى والضباب يزلُّ عنه

كوقف العاج ليس به كدوح

وأصبح ينفض الغمرات عنه

كوقف العاج طرته تلوح

كأن على الحُدوج مخدراتٍ

دُمى صنعاء خُطّ لها مثال

والعجاج:

بيضاء صفراء اصفرار العاج

في مرشقات لسن بالاهماج

والمُثقّب العبدي:

ومن ذهبٍ يلوح على تريب

كلون العاج ليس بذي غضون

ثالثاً، الثياب والمآزر «الكرته»:

و«الكرته» لباس هنديّ خاصّ، ولكنّه كان شائعاً في بلاد العرب، ومعروفاً عندهم، مع تعريبهم له بلفظ: «قِرْطَق» و«قِرطُق». وهو من الملابس التي يكثر ذِكرها في أشعار العرب. واستورد العرب من بلدة قس الهندية، أنواعاً من الثياب والمآزر الملوّنة، وهي من أفخر المنسوجات الهندية المستوردة. وقال في ذلك ربيعة بن مقروم (ت. بعد 16 هـ.=637 م.):

جعلن عتيق أنماط حدورا

وأظهرن الكراكي والعهونا

على الأحداج واستشعرن ريْطا

عراقيــــا وقِسّــــــيّا مصونـــــا

والقصى أو القسى من فرض الهند التي يقصدها التجار، ويسهل عليها نزول المراكب وإبحارها. وهو بلد مشهور حدّد البعض مكانه بالقرب من الديبل وثيابه مشهورة.

رابعاً، السيوف القلعيّة:

والقلعة.. وقيل: قلعة ِكَلَة بلد في أول بلاد الهند من جهة الصين، وإليها تنتهي المراكب ثمّ لا تتجاوزها. وإليها ينسب الرصاص القلعي، والسيوف القلعية وهي الهندية العتيقة. وأصل كلمة «قلعي» كلهي، و«كله» بلدة مشهورة على الساحل الجنوبي للهند. وقيل: على مقربة من بومباي.

وقيل: إنّ «كله» كانت تقع على الساحل الغربي لشبه جزيرة الملايو. وهي منطقة واسعة تضمّ أربع مدن رئيسة، وتعتبر كله المدينة الكبرى في المنطقة. وهي فرضة تقع على منتصف الطريق بين عمان والصين.

وهذا يشير إلى كونها في شبه جزيرة الملايو. ولكون كله عاصمة الإقليم كان بها قلعة عظيمة، كانت تضرب فيها السيوف. وربما تكون كله هي في منطقة قدح (Kedah) على الساحل الغربي لشبه جزيرة الملايو.

وقيل: هي نفسها كوالالمبور العاصمة الماليزية الحالية. ويروى أنّ رسول الله ــ صلّى الله عليه وسلّم ــ ، أصاب من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف، أحدها سيف قلعي. وكانت السيوف القلعية مشهورة عند العرب قبل الإسلام بمدّة طويلة، ويدلّ على ذلك أنّ عبد المطلب بن هاشم لمّا أعاد حفر زمزم وجد فيها سيوفاً قلعية دفنتها جرهم فيها لما خرجت من مكة. ومن كثرة هذه السيوف أن عبد المطلب ضرب منها باباً حديداً للكعبة.

وورد ذِكرها عند الفرزدق في قوله:

متقلّــــدي قلعيّــــة وصـــوارم

هنديّـــــة وقديمـــــة الآثــــــار

خامساً، السيوف الهندية:

كان العرب حريصين على اقتناء السيوف الهندية. إذ يُعَدّ السيف الهنديّ من أجود السيوف المستعملة عند العرب في حروبهم، وهو أكثر الأسلحة وروداً في الشعر الجاهلي، وأجاد الشعراء وصفه، وتبيين مزاياه. ومن أقوال الشعراء في السيوف الهندية قول زهير بن أبي سلمى (ت. حوالي 13 ق.هـ./609 م.):

أكفّ لساني عن صديقي وإن أُجأُ

إليه فإني عارق كلّ مَعرَق

برَجْمٍ كوقْع الهُندواني أَخلصَ

الصياقل منه عن حصير ورونق

ويصوّر الشاعر نفسه في هذه الأبيات، أنّ فعله مع مَن يهجوهم، كمثل السيف الهندي القاطع. ويعتبر البيت الثاني من الأبيات القليلة التي يُذكَرُ فيها مهارة صانع السيف وصاقله. وغالباً ما يشير الشعراء إلى جودة المصنوع دون ذِكر الصانع صراحة. وربما يفهم من هذه الأبيات أيضاً أن صنّاع السيوف من الهنود الماهرين أو ربما أنّ هذه السيوف صُنعت بخبرات هندية في منطقة الخليج العربي أو في أنحاء أخرى من شبه الجزيرة العربية.

ويصرّح عنترة أنّ السيف الهندي مصنوع من حديد صافٍ، خالص، قاطع:

فطعنته بالرمح ثم علوته

بمهنّدٍ صافي الحديدة مِخذَم

وقول عبيد بن الأبرص (ت. نحو 600 م):

أمــــّا إذا استَقبَلتهَا فكأنــّـها

ذبُــــلت مِن الهندِي غير يــبُـوسِ

ويقول عمرو بن معد الزبيدي:

ونسمع للهندي في البيضِ رنّة

كرنةِ أبكارٍ زُففن عرائسا

وقول بشر بن أبي خازم الأسدي:

ونحن أولى ضربنا رأس حجرٍ

بأسيـــــافٍ مهنّــــــدةٍ رقــــــاقِ

سادساً، الرماح:

وكان من أشهر الرماح عند العرب، الرماح الخطيّة، والخطّ بلد في إقليم البحرين، وهي لا تنبت فيها الرماح، ولكن ترسو فيها سفن الرماح. وتصنّع فيها الرماح، أو يعاد تصنيعها وتقويمها فيها.

وتكاد تجمع المصادر العربية الإسلامية على أنّ الخطّ هي مرفأ السفن المحمّلة لقنا الرماح، والقادمة من الهند، ومن الخطّ تفرّق الرماح في البلدان. وكانت عمان أيضاً موطناً لتجارة الرماح الهندية. وكانت عيدان الخيزران التي تصنّع منها الرماح تجلب من بلدة كلوة بأرض الهند تحديداً، حيث توجد بها منابت الخيزران.

وكذلك في جزيرة أوبكين التي هي أول بلاد الهند على الحدود مع السند حيث تنبت القنا في جبالها. وفي بلاد السند نفسها. وتنبت القنا والخيزران أيضاً في جزيرة سوبارة الواقعة إلى الشرق من المدينة المسماة بالاسم نفسه.

وفي منطقة صيمور أيضاً، وفي سندان وملي ببلاد الهند وفي جزيرة الرامي (أو الرامني) وكله وفي جزيرة تانة. وقد أجاد الشعراء الجاهليون وصف الرمح الهنديّ الخطّيّ، وطوله وشدّة طعنه. ومن أمثلة ذلك، قول الأعشى:

أصابــه هندوانــــي فأقصـــده

أو ذابل من رماح الخطّ معتدل

وقوله أيضاً:

وَلدْنٌ من الخطيّ فيه أسنّةٌ

ذخائر مما سنّ أبزى وشرعب

ويشير الأعشى في بيته هذا، إلى اثنين من صنّاع الرماح الخطّيّة الهنديّة، وهما أبزى وشرعب. وربما يكونان من أهالي الخطّ أو ربما من أصول هندية، على الرغم من أن اسماهما لا يشيران إلى أصلهما وانتمائهما العرقي.

وقول عنترة بن شداد:

وأطراف القنا الخطّيّ نقلي

وريحانِي إذا المضمار ضاقا

بأسمر من رماح الخط لَدْنٍ

وأبيض صارم ذكر يماني

وقال عمرو بن كلثوم (ت. حوالي 20 ق.م.=600 م.):

بسمرٍ من قنا الخطي لُدنٍ

ذوابــــل أو بيــــض يعتلينـــــا

وقال العُدَيْل بن الفَرخ العجلي (ت. 100 هــ):

كلانا ينادي يا نزار وبيننا

قنا من قنا الخطّيّ أو من قنا الهند

وقول العباس بن مرداس:

فأبنا وأبقى طعننا من رماحنا

مطارِدَ خطّيّ وحمرا مَدَاعسا

وقول حاتم الطائي:

وأســمر خطّيّـــاً كأنّ كعوبـــه

نوى القسب قد أرمى ذراعاً على العشر

سابعاً، السّاج:

استورد العرب من الهند خشب الساج الذي لا ينبت إلا فيها، كما يقال. وهو شجر عظيم جدّاً، يذهب طولاً وعرضاً، وله ورق أمثال التراس، وخشبه أسود. وقيل: ينبت في ساحل مليبار. وينبت الساج كذلك في أراضي بورما. وهو من النوع الجيّد الصلب القوي المقاوم. وكان خشب الساج يستعمل في صنع الأثاث الفاخر، وفي المعابد، والقصور.

وقال النابغة الشيباني في ذلك:

وقبّة لا تكاد الطير تبلغها

أعلى محاريبها بالساج مسقوف

وقد صنع الناس في الخليج العربي من هذه الأخشاب، السفن والقوارب، لمرونة الساج وقوة تشكله حسب الطلب. كما أن ألواح الساج لا تتلف الحديد. وكان سرير رسول الله ــ صلّى الله عليه وسلّم ــ ، له عمود وقوائمه ساج، أهداه له أسعد بن زرارة لما هاجر إلى المدينة. وبقي عنده حتى وفاته، فوُضع عليه وصُلي عليه وهو فوقه. وهو السرير نفسه الذي عُرف بسرير عائشة، وهو السرير الذي حمُل عليه أبو بكر ثم عمر ــ رضي الله عنهماــ .

«تهنيد»

سمّت العرب نوعاً من السيوف: مهنّداً، حيث إنه منسوب إلى الهند، وقولهم: سيف هُِنْدواني، وقد تغنى به الشعراء، وهو أيضاً منسوب إلى الهند. وسيف مهنّد وهندي إذا عُمل في الهند. والتهنيد شحذ السيف المهند الذي هو طُبع على سيوف الهند.

السيوف

كانت الهند من أكثر بلدان العالَم إنتاجاً للحديد، وتتفاضل من حيث جودة الصنعة والسبك ودقة الصقل والجلاء. وكان الحديد الهندي يستخدم في صناعة الرماح. وورد فيه قول عنترة:

فطعنتــه بالرمـــــح ثــــم علوتــه

بمهنّدٍ صافي الحديدة مِخذَم

وقال جرير:

وقد قطع الحديد فلا تماروا

فرنـــــــد لا يفـــــــل ولا يـــــــــذوب

وعمرو بن معديكرب الزبيدي:

فيوما ترانا في الخزوزِ نجرها

وما ترانا في الحديد عوابسا

الزعفران

وقال فيه عنترة:

وما راعني يوم الطعان زُهُوقه

إليّ بِمَن بالزعفران تضرّجوا

وقال النّمر بن تولب (ت. نحو 14 هــ):

يُشَنُّ عليها الزعفران كأنه

دم قاربٌ تُعلى به ثم يغسل

وأما في الكافور، فقال الأعشى:

وبارد رتل عذب مذاقته

كأنما عُلّ بالكافور واغتبقا

Email