أسفار الإماراتيين.. صفحات مجد تروي رحلات كفاح الآباء والأجداد

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أن أدرك أسلافنا على هذه الأرض قدَرَهم وقدْرهم وهم في كفاح مع الأرض والحياة، ليصلوا بها ثم بنا إلى ما وصلنا إليه في هذا العصر، ولولا رحلات كفاحهم، وأسفارهم البعيدة عبر مياه الخليج العربي، وبحر العرب والمحيط الهندي، لما سطّروا أمجادهم وخلّدوا ذِكراهم، ولولا تعبهم وجدّهم لما وفّروا لعوائلهم ومجتمعهم لقمة العيش الهانئ والحياة الكريمة.

وهم بذكرياتهم الماضية يعيشون عليها، ويروونها لخلفهم لعلّهم يرون فيهم قدوة، ويرون فيهم فألاً حسناً، وهذه الذكريات سجّلتُها مع رجال عديدين قضوا حياتهم يكابدون الحياة حتى تحقّق لهم العيش فيها كرماء.. والتسجيل مع الآباء والأجداد هو حديث مع نفوسنا وذواتنا. ومن الجدير بالإشارة إلى أنّ ما يزيد من عقود أربعة على نشوء دولة الإمارات العربيّة المتحدة تشكّلَ خلالها نماذج رائعة من الباحثين والمتخصّصين في تراث الإمارات.

وبرز فيها كتّاب ومؤلِّفون قدّموا فيها تراث البلد محاولين الوصول إلى حقائقه الأصيلة، وكاشفين عن المعاني الجميلة لهذا التّراث، ومظهرين صورته الحيّة والحيويّة التي غالباً ما جهلتْها الأجيال النّاشئة التي تبحث عن القدوات الثقافيّة، والنّماذج التّراثيّة والفكريّة في الموروث الشّعبي المحلّيّ.

وبفضل هذه الجهود تكشّف كثير من الحقائق التّراثيّة عن مجتمع الإمارات، وتمّ نقل معالمها القصصيّة والمرويّة تسجيلاً وتدويناً في إصدارات مختلفة، مع الإقرار بتباين هذه الإصدارات في أهمّيّتها وعمقها، وفي منهجيّتها وطريقة عرضها.

مكونات تراثية

وبصورة عامّة فإنّ مكوّنات التّاريخ الشّفهي هي مكوّنات التّراث الشّعبيّ مثل: الحكايات والقصص والسّير الشّعبيّة والأمثال والحكم والغناء والشِّعر وغيرها.

ومما لا شكّ فيه، فإنّ الراوية بصورة عامّة هي عبارة عن أسلوب مثقل بالخيال والرّموز الشّعبيّة التي تخدم الأغراض والغايات الاجتماعيّة للمجتمع، وهي تحمل أفكاراً تمثّل المنحى الثّقافي للجماعة. ويعدّ الراوي حاملاً لتفسيرات تتجدّد مع كلّ حقبة زمنيّة لهذه الأفكار.

وتعتبر الرواية نوعاً مِن «القراءة الشّعبيّة» للتّاريخ، وهي بالتّالي تعكس رؤية الجماعة لتاريخها بغضّ النّظر عن تفاصيل الزّمان والمكان. وهذه الرّؤية الشّعبيّة للتّاريخ تأتي في مواجهة ما يكتبه المؤرّخون المحترفون الذين تنعكس آراؤهم وتفسيراتهم في نتاجهم العلمي.

ولهذا فإنّ الدّراسات التّاريخيّة تعتمد على هذا النّوع مِن المصادر إلى جانب المصادر الأخرى. وهي تحمل ما يمكن أن نسمّيه بـــ«البُعد الثّالث» في الظّاهرة التّاريخيّة. ونحن عندما نستمع لرواتنا ونفهم هؤلاء الرّواة فهو بالتالي فَهْمٌ لأنفسنا.

والمقابلات الشّفهيّة تقدّم للباحث معنى للتّاريخ والأحداث لأنّ هؤلاء الرّواة يؤرّخون للماضي، وهم الذّاكرة الجَمعيّة للرّواية الوطنيّة إذ تكمن قيمة الرّاوي المعاصر للحوادث بكون وصفه أقدر على معرفتها وأبعد عن الخلط بينها. ولهذا تعدّ المقابلة الشخصية، هي ما يُسميه بعضهم بالتاريخ الحيّ «Life History»، إذ إنّ الراوي في هذه الحالة يعيش الأحداث التاريخية التي عاصرها أو ممّن سمعها من المشاركين فيها.

كما نستفيد بطريقةٍ مباشرة من الانطِباع العامِّ الذي تركته الأحْداث اللاحقة في نفس الفرد، الذي شارك في صنع الحدث، أو شهِده، أو سمِعه ممَّن شهده. وهذا بدوْرِه يسهم في ضبط الاستنتاجات العلمية التي يتوصَّل إليْها الباحث، وأيضاً عن طريق اكتشاف حقيقة الأهداف التي توخَّاها أولئك النّاس من صنع أحداث محدّدة.

مقابلات وكشوفات

ومن خلال المقابلات العديدة والمتنوّعة، وعبر تجربتي المباشرة مع رواتنا، انكشفتْ أمامنا صفحات من الحيوات الشخصيّة لهؤلاء الآباء والأجداد، وتعرّفنا من خلال أحاديثهم حيوات ممتعة، وسِيَراً متميّزة، وأعماراً ثريّة. وكان من ضمنها أسفارهم ورحلاتهم المتضمّنة مكابداتهم وخبراتهم وتعاملاتهم وأحلامهم وآمالهم وهمومهم ومآلاتهم وأحوالهم.

وكانت ذِكريات الأعاصير وهبوب الرياح القويّة والدّوّامات البحريّة من مصاعب الإبحار في الخليج العربي وفي بحر العرب والمحيط الهندي، وتؤدّي في بعض الأحوال إلى انقلاب المراكب وغرق المسافرين وضياع المتاجر وهلاك البضائع، حينها تكون النّجاة هي الهدف الوحيد إمّا سباحة وإمّا لجوءاً إلى جزر منعزلة وإمّا تعلّقاً بقوارب صغيرة، وتكون النّجاة بالروح مع إصابات البدن خير مكافأة يتحصّل عليها مَن مرّ بتلك الظروف والأحوال.

وما يجمع بين كثيرين من هؤلاء الرواة أنّهم سافروا في سنّ صغيرة بين العاشرة والخامسة عشرة، وأنّهم كانوا برفقة آبائهم أو إخوانهم الأكبر منهم أو أقاربهم، وأنّ مثل هذه الرحلات البعيدة كانت مدرسة يتعلّم فيها هؤلاء الصغار، فيختبرون الحياة منذ نعومة أظفارهم.

ومع هذه المشقّة فإنّ ما يتحصّلون عليه من مكافأة أقل بكثيرٍ ممّا كابدونه، ومع ذلك فهي سبيل للعيش لا بدّ منه، وهي إحدى مراحل الرجولة المبكّرة الظاهرة في عيون وسلوكيات هؤلاء الصغار الكبار.

مهوى الأفئدة وباب الرزق

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه لموانئ الخليج العربي، وعلى رأسها دبي، ذِكر وذكريات في أحاديث هؤلاء الفضلاء. فدبي كانت مآل تجارتهم وملاذ مراسيهم، وفيها يتمّ البيع والشراء، وهي المتجر الرابح لكلّ مَن أراد تجارة أو أراد تبادلاً، وهي كانت في عقدَي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مركزاً من مراكز الاقتصاد على ساحل الإمارات. ولهذا كانت منتهى أفئدة التّجّار القادمين من موانئ الخليج العربي وشرق أفريقيا، وكانت لتجّارها صلات قويّة مع تلك الأقاليم.

كما كانت للمرافئ الأخرى إشارات ولمحات تجسّدت في نضالات أهالي صور الذين طبّقوا بشهرة ملاحتهم الآفاق، وتمثّلتْ في سفرات أهالي رأس الخيمة والشارقة الذين ورثوا حبّ الترحال وركوب البحار، وظهرت في نشاطات أهالي الكويت الذين خبروا البحار والملاحة فيها، وتغلّبوا على مصاعب الأسفار مهما طالتْ، وقد شاركهم جميع أهالي الخليج العربي في هذه الرحلات حتى أضحت البحار وكأنّها تموج بهم بشراً وسفناً وأرواحاً، وكانوا حينها يسافرون بالمراكب ذات الأشرعة (الدُّومي) قبل دخول المحرّكات (المكاين)، ومنهم مَن سافر في العصرين.

تمور إماراتية في عدن

كما قدّم لنا رواتنا إشارات واضحة لِما تمتّع به ميناء عدن من ازدهار وحركة ونشاط، وكان حينها تحت الحكم البريطاني، وكان ميناء عدن يعجّ بالسفن والمراكب.

وكان يقيم فيها عدد من أهالي الإمارات يتاجرون فيه بالأطعمة والخيول وغيرها، وكانت سفن الإماراتيين تجلب إلى عدن كمّيات كبيرة من التمور. وربما كانت مراكب أهالي الإمارات ترسو شهوراً في عدن انتظاراً لموسم هبوب الرياح.

ويتذكّرون فيها «الشيخ عثمان» و«شمسان»، وكانت السلطة البريطانية تتعاقد أحياناً مع النّواخذة العرب على حمل بضائع لجنودها في ظفار مقابل مبالغ ماليّة معيّنة. وكانت العملات المستخدمة حينها الروبيه والشلنق. وتمرّ بالراحلين أعياد ورمضانات وهم ركوب على سفنهم يمخرون عباب البحار، ويكون عيدهم عيدين إذا وصلوا بلادهم في أول أيّام العيد.

وبعضهم منذ الصغر وهم يعشقون ركوب البحار، ويخاطرون بأنفسهم حتى ولو هرّبوا أنفسهم في مراكب الأسفار. كما قدّموا لنا تفاصيل عن الازدهار الزراعي والخيرات في بلاد الصومال وما تمتّعتْ به من منتجات.

جَلَد ومسارات ومحطات

ومَن يتتبّع معنا هذه التدوينات يجد استنتاجاتنا متمثّلة في أقوال رواتنا وإشاراتهم وتلميحاتهم. ومع كلّ المشقّة والبُعد والتعب إلا أنّ ذلك واجهوه بصبرهم وجلدهم وتوكّلهم على الله تعالى. وسيجد المستمع في أحاديث هؤلاء الرواة محطّات مسيرهم من خروجهم من البلاد إلى عودتهم إليها بعد عدّة شهور.

وهذا مسارهم من دبي أو من رأس الخيمة أو من الشارقة إلى خورفكّان فالباطنة فمسقط، ومن مسقط إلى رأس الحدّثمّ -صور، ومن صور إلى ظفار ومن ظفار إلى سدح ومرباط، ومنها إلى رأس حافون في القرن الإفريقي، وفي بعض الطرق يمرّون بجزيرة سوقطرة، ومنها جنوباً أو غرباً نحو برّ الصّومال. وبعد رأس حافون إلى مقديشو، ومركا ثمّ لامو وممباسا، وبعدها زنجبار.

ويظلّون فيها نحواً من أربعة أو خمسة شهور حتى يتغيّر الهواء. وكانت سفنهم أحياناً تُسحب أو تدفع من قِبل مراكب خاصّة تُعرف بالتّك.

وتعلّم رواتنا العديد من الكلمات السواحيلية، كما تداخلوا مع الأهالي في معيشتهم، وتعرّفوا عليهم. وأشار رواتنا إلى أنواع من السفن العابرة للمحيطات مثل: الأبوام والجوالبيت والغنجات أو الكوتيه، وهي سفن ضخمة ذات أحمال عظام.

رايات الخليج

تكشف أحاديث رواتنا، ممن خاضوا تجارب السفر أو عرفوها من روايات آبائهم، أن أقاليم زنجبار وممباسا والساحل الشرقيّ لإفريقيا كانت تعجّ بسفن أهالي الخليج العربي، وكانت تعلو في أسواقها أصواتهم، وتخفق فيها راياتهم.. وكانت تلك البلدان مصدراً للجندل والقرنقل وغيرها من المنتجات الصناعيّة والزراعيّة الأخرى. كما كانت لمنتجات ظفار، وهي اللبان بالغالب، ذِكر وشأن.

المانفيس

مثّلت ورقة «المانفيس»، جواز سفر الأهالي في رحلاتهم، بمساراتها المختلفة، قديما، وهي ورقة مثل الجواز مكتوب فيها أسماء البحّارة. وكانوا كلهم عرباً من مواطني الإمارات، وهم في مسيرهم هذا يدوّنون كلّ شيء مما صرفوه وما اشتروه وباعوه.

وكانوا عادةً يبحرون من زنجبار «سنيار»: سفينة تتبعها سفينة فأخرى، بمجرّد ما ينادى عليهم للمغادرة من تلك الجزيرة التي كانت مزدهرة، عامرة بأهلها من العرب العمانيين وغيرهم، والأفارقة والأوروبيين والهنود، وكلّهم يتعايشون في مجتمع واحد.

بحارة وأدلاء

كانت الأسفار تستغرق شهوراً عدّة وفي كثير من مراحل الرحلة لا يجد فيها المبحرون سوى الماء من تحتهم والسماء من فوقهم، وكانوا يتعرّفون على طريقهم عبر النّجوم والبوصلات والاسطرلابات والخبرة المتراكمة، ومع الظلام الدّامس في الليالي الحوالك، كانوا يواصلون إبحارهم حتى يبلغون غاياتهم. وقد سافر رواتنا في سفن الكويتيين وعملوا فيها، إمّا بحّارة وإمّا أدلّاء وإمّا «مقدّميّه».

 

Email