دروب الإمارات

اللبسة وفلج المعلا..سباق في مضـــــــــــامير التراث والمعاصرة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

نذهب عميقاً في دروب الخير والوفاء للوطن وإنسانه.. نتجول في ربوع البلاد بحثاً عن الحقيقة، عن إمارات الرضا والسعادة، في عيون الأطفال والكهول.. نلتمس مكنونات هذا الشعب الكريم، في قراه البعيدة وبواديه، حيث النقاء والأصالة.

نقف على آثار الماضي ونمط العيش الجديد، لنشهد كيف حدث ويحدث التحول التاريخي العظيم من حياة البساطة إلى الرفاه والمعاصرة، دون خسران الهوية والإرث. «البيان» في هذه السلسلة تجالس الناس، وتستعرض معهم طواياهم السمحة، طريقة عيشهم، وأمانيهم الجميلة، تقاسمهم الماء والخبز والذكريات.. في عام الخير.

حملنا معنا التوقعات وخرجنا، كان يحدونا الأمل في معايشة أجواء المراعي الصحراوية، خاصة مناطق تضمير الإبل وتهجينها، اللبسة كانت الهدف، وهي التي لها ما لها من الصيت الذائع في مضمار سباقات الهجن العربية الأصيلة، ولميدانها شهرة ومكانة، بوصفه ثاني أسبق الميادين المتخصصة في هذا المجال «أنشئ منذ 1984» واجتمعت عليه القبائل والركاب القاصية والدانية، تتنافس على السرعة والجمال ومواهب المضمرين، ومن بين توقعاتنا أيضاً تفكيرنا الرومانسي في ارتشاف ماء قراح من «فلج المعلا» الشهير، وأما في الحقيقة فقد وجدنا أنفسنا أمام مفاجآت، وأيضاً مسرات منها خصوصية تجربة الإنسان الإماراتي هناك، مع العراقة وعبقرية الانتقال من حياة البداوة والترحال، إلى مدنية أصيلة ومغايرة، لا تتخلى عن القيم والأخلاق العربية، كرماً وشيماً و"سنعاً"، يعتزون بها شيباً وشباباً، في اللبسة جلسنا مجالس البدو، ولمسنا مدى أهمية البوش وثقافته في حياة الإماراتيين، خاصة في هذه البقعة التي أخذت المعاصرة من تلابيبها، ناهيك عن استعراضنا لطوايا المكان واستجلاء أسراره الضاربة في التاريخ، تذاكرنا الشظف والعوز الذي مضى إلى غير رجعة، كل ذلك وغيره كثير حدث ظهيرة الأحد 7 مايو 2017م، ضمن مساراتنا المتشعبة في «دروب الإمارات»، إذ أخذنا الطريق إلى حيث تنتظرنا لحظات سرد تتلاحق أحداثها من مسارب الماضي، على ألسنة صدقت، حينما روت ذكريات الطويان، وما أدراك ما الطويان، الحاضنة الرؤوم للإنسان والحيوان والنبات هنا، حين كانت يوماً ملاذاً للبدو، يحجون إليها من كل فج عميق، هذه بادية شهدت مزيد اهتمام من الجميع، بسبب وفرة وعذوبة الماء فيها، ويكفي هذا الاسم الحاسم «فلج المعلا» للدلالة على ذلك، والفلج في حقيقته إنما هو أفلاج ثلاثة، تصب جميعاً في شريعة واحدة، جوار حصون شامخة تشهد بقوة «أم القوتين» التي أضحت أم القيوين.

مضيفنا هذه المرة كان الشاب عبيد بن محمد بن شمال الغفلي، مواليد 1977م، الذي يعرف نفسه بمربي هجن أصيلة لها صولات في ميادين السباق، خاصة في اللبسة نفسها، فضلاً عن دبي وأبوظبي والعين، وغيرها من مراكض الإبل الشهيرة، ولكن عبيد الغفلي لم يشأ أن يأخذنا مباشرة إلى عزبته التي جمع فيها أصائل الهجن على أطراف اللبسة بمواجهة الصحراء الممتدة امتداد البصر، ولكنه بدأ بورشة سيارات! وأردفها بحصون شاهقة ومعالم تاريخية بينها قصر الشيخ والطوي وشريعة المعلا والثقاب التي هي بمثابة محطات تفتيش للأفلاج.

مركز السيارات الكلاسيكية

خليفة عبيد بو سكين الغفلي، يمتلك ورشة في فلج المعلا فريدة من نوعها، لجهة أنها تضم سيارات كلاسيكية بعضها يعود لأربعينات القرن المنصرم، وهي بشكل أساسي إنجليزية الصنع «خاصة ماركة اللاندروفر» التي يتوفر منها أول جيل، بل تجد في هذه الورشة السيارة التي كانت مخصصة لقائد الجيش الإنجليزي إبان العدوان الثلاثي على السويس في الخمسينات الماضية، وخليفة الغفلي يؤكد أنه تلقى عروضاً بمبالغ يسيل لها اللعاب من أجل اقتناء هذه السيارة النادرة، بعضها من بريطانيا نفسها، إلا أنه يرفض بيعها، وهذا لا يعني أنه لا يعرض بقية السيارات القديمة الأخرى للبيع، بل يجلبها من مختلف دول العالم ويقوم بإعادة صيانتها على الصورة التي كانت عليها وهي جديدة، ثم يعرضها للبيع.

يقول خليفة لدينا هنا أكثر من 200 سيارة تمتد موديلاتها من الأربعينات حتى نهاية السبعينات، منها اللاندروفر والكاديلاك والرولز رويس والفورد والمرسيدس والأمبريال والدوج، وورشتنا هذه هي الأولى من نوعها في الإمارات وهي بمثابة معرض أو متحف سيارات عالمية كلاسيكية انطلقت قبل عشر سنوات، واستقطبت المئات من الزوار بينهم أجانب كثر، ويقول إن أقدم سيارة نحتفظ بها هنا هي بيدفورد موديل 1943م، كما نحتفظ بالنسخة الأولى إطلاقاً من اللاندروفر، وعن أسعار المركبات التي تعرضها الورشة يقول إنها تتراوح ما بين 80 ألفاً إلى 200 ألف درهم.

وخلال جولتنا التقينا الشاب الإنجليزي مونتي برايا المولود في دبي عام 2002م لأب ألماني وأم إنجليزية، يقول: أنا من دبي وورثت محبة السيارات القديمة من والديّ وتعرفت إلى ورشة فلج المعلا عام 2015م، وأعجبت بما فيها واقتنيت منها سيارة لاندروفر موديل 1985 السلسلة الثانية، وأعمل على صيانتها وترميمها لأتخذها وسيلتي بنهاية العام المقبل.

جولة في القرية

بلدة فلج المعلا كانت يوماً قبلة يحج إليها البدو الرعاة من سائر مناطق الدولة، وأهلها أنفسهم كانوا يتنقلون طلباً للعشب الذي يسد رمق إبلهم وأغنامهم التي كانت تمثل ثروتهم ومدار حياتهم، ولكن بسبب الفلج العريق والشهير فإن البقاء في هذا المكان كان أطول، حيث تكثر الطويان أيضاً بجانب ثلاثة أفلاج كانت تجري حتى بداية الثمانينات، أولها فلج الصنابي القادم من الذيد وفلج الشريعة القادم من الزبيدة وأخيراً فلج النبغة وكلها تصب في حوض واسع يسمى «شريعة» أنشئ عام 1800 في عهد الشيخ عبدالله بن راشد المعلا، وهي مقسومة إلى قسمين أحدهما للنساء والثاني للرجال، لقد أخذنا عبيد بن شمال الغفلي إلى تلك الشريعة وإلى موقع ثقاب الأفلاج وهي نحو 50 ثقباً لكل فلج، وقفنا أيضاً على الطويان القديمة المجاورة.

الحصن والمسجد

من الآثار الجاذبة للأنظار هنا حصن فلج المعلا والمسجد التابع له ويرجع تاريخهما إلى عهد الشيخ عبدالله بن راشد الأول عام 1800م، وتكمن أهمية الحصن في الجهة الشمالية والبرية لإمارة أم القيوين، ولذلك فإن صاحب السمو الشيخ سعود بن راشد المعلا، عضو المجلس الأعلى حاكم أم القيوين أمر عام 2009 بترميمه وتحويله إلى متحف فولكلوري يضم تراث الأسرة الإماراتية وطريقة معيشتها من أزياء وأثاث وأدوات زينة وصندوق مندوس وراديو ضخماً منذ الخمسينات وعطور ومدبسة وطوي إلخ، بجانب ترميم وصيانة المسجد العتيق. ويتكون الحصن من بناء مربع الشكل له برجان للحراسة والمراقبة، أحدهما في الجهة الشمالية الشرقية، والآخر في الجهة الجنوبية الغربية، وتوجد به غرف في الطابق العلوي وردهة واسعة في الوسط بها طوي. وقد تم استخدام مواد محلية في عملية الترميم وهي عبارة عن حصى الوادي والجص.

وتوجد في المنطقة ثلاثة أبراج عتيقة أخرى خارج الحصن جرى ترميمها كذلك عام 2007، وهي: البرج الشمالي «النخيل» والبرج الوسطاني وبرج بن حليس.

وليمة خليجية

في بيت عبيد الغفلي جمعتنا الأقدار بثلة جميلة من الأشقاء السعوديين، كانوا في زيارة إلى المنطقة، هم أصدقاء مضيفنا، تعرف إليهم كما تقول الرواية خلال رحلة "قنيص"، ولكننا نحسبهم على علاقة بموضوعنا الذي وفدنا من أجله أيضاً إلى اللبسة «الهجن العربية الأصيلة»، قالوا تعرفنا إلى أصدقائنا الإماراتيين خلال رحلة قنيص في منطقة رافحة الواقعة شمال السعودية، قالوا أمسكنا بصقر يحمل بطاقة عليها رقم هاتف مصبح بن نهيلة فتعارفنا. المهم أننا التقينا بهم على وليمة عامرة في بيت عبيد بضاحية الراشدية في فلج المعلا، وكانوا نعم الأصدقاء يتمتعون بروح الدعابة والمحبة المتبادلة بين الخليجيين في أجواء الكرم الفياض وفي عام الخير.

ما أدراك ما الإبل؟!

عالم الإبل، لا حدود لسحره وبهجته، كيف لا وهي آية دعا الله تعالى إلى تأملها، ويكفي العرب شرفاً أنهم اعتلوها وعاشوا معها، حملتهم إلى الآفاق، وأرضعتهم من ثديها المدرار وأطعمتهم مدى الدهر، وأخيراً، وفي اللبسة وغيرها من مرابع البدو الإماراتيين أصبحت مصدر رزق من نوع آخر، فهي التي تفوز في مضامير مهرجانات السباق ثم تباع فتدر بدل اللبن ملايين، ولكن دون ذلك خرط القتاد، فيضرب البدوي أكباد الإبل نفسها ليصل إلى السلالات القوية منها فيهجنها لإنتاج أنواع قادرة على تحقيق النصر، ليس هذا فحسب وإنما يقطع مشاوير أخرى لكي «يضمّرها» بمعنى يدربها على الركض لمسافات طويلة حتى يشتد عودها ويتسع صدرها وتتعزز عضلاتها وتتهيأ نفسياً للسباق.

يقول عبيد بن محمد بن شمال الغفلي: تؤخذ الناقة وهي صغيرة ضمن قوافل للتدريب على الركض الجماعي في ميدان مفتوحة في أعماق الصحراء، وتسمى رحلتا الغدو والرواح «المسراح والمرواح»، فالتضمير هو برنامج «خبيب» يومي تتحدد مسافات ركضه بحسب عمر ونوع المطية، وبحسب نوع الغذاء الذي تتناوله، وقد يبدأ التدريب على الجري بكيلومتر واحد صباحاً وكيلومتر آخر مساء، وقد تصل مرات التدريب إلى أربع في اليوم الواحد، حسب درجة صعوبة المنافسة، ولكن على المضمر الاهتمام بكم ونوع الغذاء، ويشمل التضمير حتى التحميم والنظافة.

وعن الغذاء المفضل في تضمير الإبل المهجنة للسباق يقول عبيد: الوجبة الأساسية هي البرسيم «الجت» والشعير والتمر، وربما لجأنا إلى خلطات غذائية جاهزة تشمل بقولاً مختلفة ويمكن سقيها حليباً أياً كان مصدره (بقر أو غنم أو إبل)، ولكن من نباتاتنا المحلية التي تعشقها الإبل (الغاف والرمث والسمر). يفاجئنا عبيد بأن سعر الناقة قد يصل إلى 10 ملايين درهم، إذا تحلت بمواصفات خاصة وفازت في سباقات كبرى. ويضيف: عندما تمرض فإننا نقوم بوسمها «كيّها بالنار» وذلك لعلاجها من الأمراض الجلدية كالجرب والقرحة، والجرب مرض طفيلي، يمكن أن يتكرر. وعن طريقة الكي يضرب عبيد مثلاً فيقول: إذا حدث ورم مثلاً عند الظلف فإن الوسم يقع تحت الأذن ويسمى «وسم السلامة».

مواصفات ومقاييس

تساءلنا عن مواصفات الناقة المثلى لكسب السباق؟ فأجاب عبيد بست شروط ويقول هذا هو الحد الأدنى لمواصفات الجودة:

1- أن تكون رقبتها طويلة أكثر من مثيلاتها.

2- الصدر يكون مفتوحاً واسعاً، ولكن إلى حد معين يعرفه المضمرون المحترفون.

3- الغارب وهو ظهر الناقة الذي يتقدم سنامها تكون مسافته أطول من مسافة المركب وهو ظهر المطية الذي يلي السنام جهة الذيل.

4- الرجل «الفخذ الخلفي» يجب أن يكون مستقيم «رزّة».

5- اليدان تكونان «عسما» أي بارزتان إلى الخارج.

6- الإبط يكون واسعاً مقارنة بالنوق الأخرى المعتادة.

أجزاء جسم الجمل

أعضاء جسم المطية تبدأ من مؤخرة الرأس وتمسى العلبة، ثم الرقبة والغارب والسنان والمركب والفقرة والورك ثم الذيل والحريشة والجوف «لمنطقة البطن والركبة» والعرقوب والبلسم والرسغ. يقول عبيد الغفلي: نحن نعرف الإبل المحلية من المهجنة بواسطة لون الذيل ووضع الأذنين، ويضيف حينما يتم تهجين إبلنا بالإبل السودانية تزيد قوتها وجودتها فتسبق.

السباق حسب الأعمار

تنقسم سباقات الهجن إلى فئاتها العمرية، ويوضح مضيفنا أعمار المطايا فيقول: أصغرها الفطيمة، وهي في سن سنة إلى سنة ونصف السنة. ثم تليها الحجة ما بين سنتين إلى أقل من ثلاث، ثم تصبح لجيّة حينما تبلغ الثالثة، ثم جذعة في أربع سنوات، فتكبر لتصبح ثنية «تجمع على ثنايا» في سن خمس سنوات، فرباعية عند بلوغ سن ست سنوات، وتصبح سداسية وتكبر لتصير أول فطر وثاني فطر، كل فئة تكون لها جولة سباق خاصة بها وأما الأعمار من رباعية فما فوق، فتجمع في جولة واحدة، باعتبارها جميعها نوقاً مكتملة.

سلوك الإبل

وعن تصرفات الهجن ونفسياتها يقول عبيد، الجمل يعرف الإنسان الذي يحبه والذي يكرهه. وللمطية أصوات يعرفها عشاقها، فمثلاً الهدير هو صوت البعير الهائج وفيه يخرج لهاته منتفخة ويفرز زبداً من فمه، في إشارة إلى الرغبة في التزاوج، وأما الحنين فهو نداء الأم لعودة الابن المأخوذ عنها أو حنين الابن المحروم من أمه، بينما الرغاء هو تعبير عن الغضب والاحتجاج ضد استفزاز تعرضت له الإبل أو عند الخوف من شيء.

قص الأثر

قصة استرعت انتباهنا بشدة، رواها لنا المواطن سالم حمد بن جرش الغفلي من جيل السابق، حيث يبلغ من العمر 67 عاماً، قال ظل أهلنا يعيشون في هذا المكان منذ زمان بعيد، وفي صغري كنت أتنقل معهم تبعاً لوفرة العشب والماء حركتنا تمتد من أعماق سلطنة عمان حتى أعماق إمارة أبوظبي، مترحّلين من بقعة إلى أخرى، يومها كان ابنك هو خادمك الذي يحتطب ويقطع أغصان شجر الثمام لإطعام البهائم، وهكذا حتى بلغت العاشرة، وفي فترة انتقلنا فيها إلى جزيرة الزعاب برأس الخيمة أبلغني رفيقي خليفة سيف المسافري بأنه سيلتحق بالمدرسة وعرض عليّ أن أرافقه ففعلت فوراً، حيث ذهبت معه دون علم أهلي مخافة أن يعترضوا، إذ لم تكن المدرسة جزءاً من ثقافتنا البدوية، المدرسة «الداخلية» كانت تحت إشراف مكتب التطوير الذي ترعاه بريطانيا، كانت توفر الغذاء وكل الحاجيات، وأذكر أن مدير المدرسة ومعلمها الأول رجل سوداني الجنسية يدعى أحمد كان مخلصاً، كان الوحيد الذي يربينا ويقوم بتدريسنا كل المواد، وقد تتلمذ على يده عدد كبير ممن تقلدوا مناصب مرموقة في الدولة.

ومن الطرائف أنني حينما اختفيت بحث أهلي عني بواسطة قص الأثر، وقبيلة الغفلي معروفة بهذه الموهبة، وقد انتهى أثري إلى بيت صديقي خليفة، فسألوا أهله الذين أوضحوا لهم أنني رافقت ابنهم إلى المدرسة، فتركوني لخياري، وهكذا أكملت في المدرسة الزراعية بالدقداقة أربع سنوات، في السنة التالية لتخرجي 1964م التحقت بقوة دفاع أبوظبي في الفترة من 65-1971م وبعد التحقت بوزارة الصحة سائقاً حتى التقاعد.

Email