قراءة في قصيدة محمد بن راشد

«رجم عالي» صياغة شعرية بمستوى رفيع

ت + ت - الحجم الطبيعي

قصيدة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، المنشورة يوم الأربعاء بتاريخ 26/‏4/‏2017، تحت عنوان (رجم عالي) من القصائد المتميزة ذات المستوى الشعري الرفيع من حيث الصياغة الجميلة والمحكمة، ومن حيث المعاني العميقة والصور المعبّرة، وتنقسم هذه القصيدة إلى ثلاثة أقسام، الأول: يتحدث فيه الشاعر عن نفسه ويصور حاله ويحكي عن صفاته وخصاله الفريدة التي يتميز بها عن غيره كما يراها من منظوره الخاص، فكأن الشاعر أراد أن يصف نفسه بنفسه وأن يبرز سجاياه التي هو عليها، والتي تشكل في نهايتها ذاته المتميزة والفريدة، وبالتالي يتفق معه الناس فيما ذكره عنها، فالشيخ محمد بن راشد شخصية عامة ليس على المستوى المحلي أو بين أقرانه وإنما هو شخصية عامة على المستوى الدولي، تخطى كثيراً من الحواجز والمواقف التي ربما تحد من قدراته، إذ أثبت خلال السنوات القليلة الماضية أنه ذو عبقرية خاصة به لا يشاركه فيها أحد من الناس، وذلك من خلال كثير من القرارات والتصرفات والسلوكيات، وما أنتجه على مستوى بلده ودولته من تطورات هائلة سواء في مستوى الخدمات التي تقدمها الدوائر والوزارات والمؤسسات الخاصة والعامة، ورقي مستوى العمل في تلك الجهات والمنافسة التي أوجدها الشيخ محمد بين الجهات المعنية أو سواء من حيث البناء العمراني الذي شمل أرجاء البلاد، وتميز البنية التحتية لكثير من مشاريع النهضة الحضارية التي تشهدها منطقته، وما أوجده من بنية سياحية رائعة رغم ظروف الجو المعاكسة، بحيث أصبحت دبي خاصة ودولة الإمارات عامة وجهة سياحية لكثير من الأفراد والشعوب.

بحر زاخر

ووراء هذا التطور الملحوظ والنهضة الشاملة والحضارة التي تلفت العقل والعين والقلب شخص بقامة الشيخ محمد بن راشد وقدراته وطاقاته المتجددة وأفكاره، وبعد نظره وجرأته على اتخاذ القرارات في المواقف الصعبة، كل ذلك أوجد منه هذه الشخصية العظيمة التي تنغلق على مفاتيح التفسير، فمن حيث أثبت الشيخ وفي أي جانب أردت الحديث عنه تجده بحراً زاخراً وفياضاً مدراراً يبهرك بكثير من خصاله وصفاته بذات القدر الذي تحدث فيه عن نفسه في مقدمة هذه القصيدة العصماء.. أو كأن الذي دعا الشيخ محمد إلى أن يتحدث عن نفسه بهذا الشكل أنه لم يجد من غيره من الناس من وفّى حقه في وصفه بما يتحلى به من صفات وسجايا أو أنه أخبر بنفسه من غيره، فجاء حديثه عن نفسه حديث خبير بها عارف بقدراتها وتميزها، وهذا القسم من القصيدة من أجمل أقسامها بالنسبة للقسمين الآخرين، لأنه حديث ملتصق بالنفس معبّر عن معرفة كاملة بخصائص شخصيته التي هو عليها والمعروف بها بين الناس، وتعبيره في هذا القسم يتسم بالقوة والعمق وصياغته تعبّر عن جمال بياني وتجسيد حقيقي لصفات نفسه، أما القسم الثاني من القصيدة فهو القسم الغزلي، حيث اتخذ من المقدمة سبيلاً للولوج إلى غرضه في التشبيه والغزل، وبث شكايته وانتصاره لنفسه في علاقته بهذا الحبيب، وحرصه على أن يحافظ على علاقته معه، وإلا فإنه إن غيّر رأيه وابتعد عنه ففي هذه الحالة يصعب رجوعه إليه، وما إلى ذلك من حديث غزلي محبب إلى النفس.

أما القسم الثالث فهو اللغز المعمّى الذي أراد به أن يحرك طاقات الناس ومداركهم ليشاركوا في تفسيره وحله، فكل من المقدمة والحديث الغزلي سبيل للدخول إلى القسم الذي يليه من الأغراض:

فـوقْ رجــمْ المرجلِـــهْ شَبِّيـــتْ ضَــــوِّي

                               رجــــمْ عــالي لي مضَــيِّعْ يهتــــدي بِـــهْ

لنعد إلى تحليل أبيات القصيدة التي نعتناها بأنها متميزة ومن ضمن أفضل قصائد الشاعر في غرضها.. يقول الشاعر إنه فوق أرض مرتفعة جداً أشعل عليها ناره، وذلك كناية عن تفرده ورفعته وأنه يعشق المواطن العالية قدر نفسه وهمته وعزيمته، وفي هذا مدح للشخص ذاته الذي يهوى هذه المواطن المشرفة العالية، لأن العالي ورفيع القدر لا يناسبه إلا أن يكون مكانه عالياً ورفيعاً بعكس ضعيف العزم ووضيع المكانة، فإنه يحب العيش بين الحفر.

علا ومكارم

هذه المكانة المتميزة التي تبرق بخصائصها وضياء نارها، والتي ترى من بعيد ليهتدي بها السائرون والضائعون، وتلك ميزة كبيرة للشاعر أن يكون موقعه وصفاته موضع اهتمام ودليل للحيارى من الناس.

ولم يكتف الشاعر بوصفه بـ"رجم" أي مكان مرتفع أو جبل عال، وإنما أضاف إلى ذلك أنه رجم المرجلة أي أنه قمة الرجولة، والرجولة هي الصفات المحببة في الإنسان والمواقف الشريفة التي تعبر عن النخوة والشرف والأصالة.

وفي هذا البيت إشارة إلى أن سعي الشاعر وغرامه بالعلا والمكارم هو الذي أوصله إلى هذه المرحلة من التميز والبروز، يبين ذلك في قوله (شبيت ضوي) أي أشعلت ناري، وإن كان في بيت لاحق يبين أن ما وصل إليه ليس جديداً عليه بل ورثه من والده الشيخ راشد بن سعيد، فالشيخ محمد شخص به من القدرات والطاقات والمواهب ما أسعفه أن يستوعب مكارم آبائه وأجداده ويتأقلم ويتفاعل معها ذلك التفاعل الذي أوصله إلى هذه المنزلة.. فتعبيره عن العلو بالرجم يكفي في معنى الدلالة على هذا العلو، لكنه لمزيد من تأكيد المعنى وصفه بأنه عالٍ.. وقوله (لي مضيع يهتدي به) فيه إشارة إلى أن الحيارى والتائهين تختلط عليهم الأمور وتتيه بهم الشعب فلا يكادون يرون ما يرشدهم، إلا أنه وضع لهم ما به يهتدون إليه لوضوحه وبريقه، وفي هذا ذاته وصف له بأنه عالٍ وواضح، والدليل على ذلك أن المضيعين يهتدون به.

وأرقِــبْ الأيَّــامْ تَجـــري مـــنْ عِلِـــوِّي

                           واللِّيــــــــالي فــــــي تِقَلِّبْهــــا عَجيبـــــهْ

ومن هذا العلو والرفعة يرقب الشاعر الأيام العجيبة في تقلبها، وذلك دليل على ما يتسم به الشاعر من تأمل وتفكير في مصير الأيام وما يمر على الناس منها، وقد خبر الشاعر الأيام حتى إنه يصفها بالعجيبة، وهي لا شك كذلك، إذ لا تدوم على حال من الأحوال وإنما تتغير وتتبدل كثيراً ولا تقف في ذلك عند حد معين، وعبّر عنها بالليالي، بينما عبّر في الشطر الأول عن ذلك بالأيام لمعنى مقصود، وهو أن تعبيره بالليالي جاء عن معنى التغير إلى الأسوأ، فناسب ذلك أن يعبر عنها بالليالي.

وما خفــاني شَــــوُ أريـــــدْ وشـــــوُ أسَـــوِّي

                            لأجــــلْ ناســــي أحمــــلْ حمـــولٍ تعيبــــهْ

يقول الشاعر بأنه لا يخفاه مراده ولا تصرفه، لأنه على يقين ومعرفة بذلك، وهو في هذه الوضعية التي هو فيها ليس تمتعاً بالراحة للراحة وإنما هو مشغول بالتفكير لما يحمله من هم خدمة الناس وراحتهم، لذلك عبّر عن هذا بجملة (لأجل ناسي) ولا شك أنها حمولة صعبة وثقيلة.

مرتفـــعْ فـــوقْ السِّـــما السَّـــامي سمـــوِّي

                            ســـــاميٍ بأفكـــــــارْ للعاقــــــلْ تِشـــــيبهْ

ويستمر في وصف نفسه بأنه مرتفع فوق السماء، ففي السابق ذكر أنه «رجم عالي» وهنا عبّر عن ذلك بأنه فوق السماء، فيما يسعى إليه مشغول بما يحمله من أفكار كثيرة تلك التي يشيب العاقل منها، وفي ذلك تأكيد لمعنى كثرة وعظم المسؤوليات التي جعلت العاقل يشيب، أي لا يقدر عليها غيره حتى من العقلاء، وهذا التعبير أدق من لو قال تشيب الناس، لأن العقلاء هم الصفوة والذين يوزنون الأمور بميزان العقل والحكمة.

أسـقيْ اللِّــي بـهْ عطَــشْ مــنْ فيــــضْ نَــوِّي

                           وعـــادتي هــذي تَــــرَىَ مـا هي غريبــــهْ

خــــذتَها عـــــــنْ والــدي مـــا هيــهْ تَـوِّي

                           وهــوهْ خـذها عـنْ أبــــوهْ وعـــنْ قريبـــهْ

جود وكرم

وفي هذا البيت كناية عن كرمه وجوده الذي يروي به العطشان أي يعطيه ما يسدّه ويكفيه.. (من فيض نوّي) أي يرتوي العطشى من بعض فيضه وفي ذلك بيان لكثرة عطائه وسخائه ويردف الشاعر بأن هذا ليس جديداً عليه، وإنما هي عادته التي تعود عليها وليست غريبة عليه أبداً كما يراها بنفسه، وكما نراها عنه حفظه الله، من كونه من أسخى من عرفنا وعاصرنا، حتى إنه كما يخبرنا، في بعض المرات لا يكون في الخزينة إلا مبلغ ما، فيأمر بصرفه وعطائه كله، ولكن كما يقول يعوضه الله في التالي بأكثر منه كثيراً.

وفي قوله (وعادتي ما هي غريبة) تأكيد لمعنى السخاء فيه.. هذه العادة التي أخذها عن والده وورثها عنه، وليست طارئة عليه وإنما هي صفة ونبع من فيض كرم والده.. وأنعم بذلك الوالد رحمه الله الشيخ راشد بن سعيد الذي أعده من أكرم الكرماء وأسخاهم، لما يسّر للناس من منافع وخدمات وبنية تحتية خدم بها عموم المجتمع، ولم تكن تلك العادة من السخاء كما يعبر الشاعر طارئة على والده رحمه الله، وإنما هي متسلسلة أخذها من أبيه وأهله من قبله، فهي على ذلك عادة قديمة ضاربة في أطناب أسرته خلفاً عن سلف.

وبـي مـــنْ أشـواقْ العنـــــــا نـــارٍ تِكَــــــوِّي

                              جَمرَهــــــا الوقَّــــــــادْ محمَــــرٍّ لهيبــــهْ

ورغم ما وصل إليه الشاعر من العلو والشهرة والمنزلة الرفيعة والمكانة العالية، فإنه لا يرتضي بذلك الذي وصل إليه وإنما هو مشغول الفكر، والقلب به من أشواق العنا ما يكوي أعماقه، فيتقلب على جمر وقاد من شدة لهيبه، فلطالما أتعبته أفكاره من زخمها وشدتها وما ينتابه من حرص على تنفيذها لخدمة الناس والشعب.

مـــــنْ حــرارةْ جَمرهــا اللاهــــبْ تِشَـوِّي

                             فـــــي اللَّحَـــمْ تنضـيهْ بالنَّــارْ وتذيبـــــهْ

هذه النار التي يصف جمرها بأنه «لاهب» يشوي لحمه وتذيبه من حرارتها، وهذا وصف للأفكار وما يحمله منها، لأن الإنسان الحر دائماً ما يعيش في صراع مع أفكاره وهمومه، ما يحمله من مسؤوليات جسام ينوء الإنسان العادي تحت وطأتها، هذه الأفكار التي وصفها الشاعر بأنها تشوي لحمه وتذيبه، وهل من معاناة أكبر من هذه المعاناة، وهل هناك من تصوير في تحملها أبلغ من هذا التصوير.

وكَنِّنـــي ذيـــــبٍ مــــنْ الشِّــــدِّهْ يعَــــوِّي

                             العشــــــــــــــا فاتــــــهْ ولا حَــدٍّ يثيبـــهْ

يصف الشاعر حاله مع هذه الهموم بأنه كالذئب الجائع الذي فاته عشاؤه، فهو يعوي طوال ليله من الشدة التي يمر بها، ولم يجد من يثيبه ويساعده على حاله، وهذا تصوير بليغ خاصة في فوات العشاء، لأنه لو كان في غير الليل لكان للذئب فرصة لاقتناص صيده وسدّ جوعه، ولكنه وقد أقبل الليل ودمست أرجاؤه فليس من أمل للذئب في توفير عشائه، لهذا فإن عواءه أشد وأبلغ، إذ هو نابع من واقع حاله وبليغ معاناته.

كَـنْ صوتِـهْ وهــوهْ فــــــي الظَّلمــا يِـــدَوِّي

                            نَدْبَــــــــةْ شحــــــوحٍ يشـــــنُّونْ الحريبـــهْ

ويصف صوته وهو يعوي في الظلام بأنه «ندبة شحوح»، أي غناء الشحوح بطريقة خاصة يندبون بها وقت حربهم، وهذا تصوير بليغ لحال الشاعر في هذا الوضع الشديد، فلا يظن إنسان أن الشيخ محمد يعيش في راحة وسلامة بال، وإنما هو في فكر وهم ومسؤوليات ومشاغل كثيرة يصعب على غيره حملها.

يـــــا وليفــــي لـــي غـــــــدا كنِّــهْ عـدِوِّي

                           مـــنْ طعـــــــــونٍ منَّهـــا روحي عطيبهْ

إلى هنا وتنتهي مقدمة الشيخ محمد في قصيدته التي عبر عن نفسه فيها خير تعبير، ووصفها بتلك الصفات التي أوضحنا شيئاً منها، والتي تشكل ذاته التي عرفها عن نفسه وعرفها الناس عنه، فأينما ذهبت ترى الناس مشفقين على الشيخ محمد من كثرة أعبائه ومسؤولياته وهمومه التي وصفها في أبياته السابقة خير وصف وأحسن تصوير.

مخاطبة الوليف

وينتقل الشاعر بعد ذلك إلى مخاطبة وليفه بهذه الرقة المعبر عنها باستعمال كلمة النداء ياء، هذا الوليف الذي غدا في عين الشاعر كالعدو بسبب ما أورثه من جروح دامية جعلت قلبه عطيباً، وعبر الشاعر عن الجروح بالطعون، وهو أبلغ في بيان المقصود، لأن الجرح قد يكون سطحياً، أما الطعون فإنها نافذة نازفة.

كنـــــتْ أظنِّـــهْ قاصــدٍ يبغــي يِلَـــوِّي

                        وأثْــــــرَهْ الخنجـــــــــــرْ ومعلــوقي طليبــهْ

وكان الشاعر يظن بأن وليفه قاصد الرجوع إليه، لكنه استبان له عكس ما كان يظن فيه، حيث وصفه بالخنجر من شدة مضائه ومصوباً به إلى ناحية أحشائه.

مـــا أدري منهــو غَيَّـــرَهْ جَــوَّهْ وجَــوِّي

                        حــدِّ عنـــدهْ ســــاعيٍ عنِّــي بغِيبِـــــهْ

ويتساءل الشاعر عن الذي غيّر جو الحبيب معه، ولا شك كما يذكر الشاعر أن أحداً سعى لديه بغيبة عنه، وإلا فما هذا التغير الذي أصابه.

وبالعجَلْ خــــذني ومــــا عنــدهْ تِـرَوِّي

                         والعجَـــلْ دايـــــــــمْ يعقِّــكْ فــي مصـيبهْ

ويبين الشاعر أن صاحبه أخذه على عجل دون أن يستبين حقيقة الأمر، حيث إنه مستعجل ولا تروي لديه، ويذكر الشاعر أن عاقبة العجل مذمومة، إذ كثيراً ما يورد العجل المصائب (والعجل دايم يعقك في مصيبه)، وهذا من الحكمة التي يتميز بها الشاعر، إذ يجري هذا القول مجرى الحكمة أو المثل معاً.

صـارْ لحبـالْ الوَصِــلْ عنِّــي يطَـوِّي

                          وقمــتْ ألومَـهْ خـايفْ إيضَـيِّعْ نصـيبهْ

أنفة الصد

ويشير الشاعر إلى أن المحبوب أخذ يطوي حبال وصله، وجاء الشاعر بكلمة يطوّي مشددة، وذلك للتأكيد على معنى كثرة الطي وسرعته، أي أنه صد عنه وغير رأيه فيه، لذلك فالشاعر يلومه بسبب خوفه عليه أن يضيع نصيبه من بين يديه، وهنا يتسم الشاعر بشيء من الأنفة، حيث جاء الصد من قبل الوليف إلا أن الشاعر رغم إقراره بهذا الأمر، يجعل الخاسر هو الوليف نفسه، وليس هو، وفي هذا دليل على أنفة الشاعر وكبريائه.

وقلــتْ لــهْ حـاذرْ أنــا لأجلـــــــكْ دنــــــوِّي

                            وإلاَّ أنـــــا إنْ ســـرتْ فـــالرَّدِّهْ صعيبـــــهْ

ويستمر الشاعر على نفس منوال الأنفة الذي اتسم به، فيخاطبه ويوغل في هذه المخاطبة بأن ينتقل فيها إلى موضع تحذير الإلف، فالشاعر يحذره بأن إقباله كان لأجل مصلحته، وإلا فالشاعر إن غيّر رأيه، وصد عنه فإن عودته عند ذلك صعبة غير مواتية وهذا أسلوب تهديد وتحذير.

شفــتْ منِّـي رحمتـي ولوُ شفـــتِ قـوِّي

                             كانْ هَلَّــــتْ دمعتـكْ تجـري سكيبـــهْ

ويبين الشاعر أن الذي جعل الوليف على هذه الصورة رحمة الشاعر ورقته، ولكنه لم ينظر إلى الأمر الآخر من نفس الشاعر، ولو علمه لكان ذرف دموعاً غزيرة على تصرف الشاعر معه، وفي هذا نفس أسلوب التهديد والتحذير من عواقب ذلك.

صـافيٍ لـكْ بالصِّـفا الصافي صِفِـوِّي

                                صفـوْ مصْـفايْ العِسَـــلْ مــا شَـيْ يعيبـهْ

ويعترف الشاعر بأنه قد صفا له هذا الصفا الذي يصفه بأنه كالعسل ليس فيه ما يعيبه، وكرر في هذا البيت الصفا ست مرات متتابعة.

وإكتشَــفتْ أنِّـــكْ علــــىَ شِــــدَّةْ هِــدِوِّي

                                 تحــرقْ أعصـــــابي بأســــــبابٍ مِريبــهْ

واكتشف الشاعر أنه على شدة هدوئه بأنها تحرق أعصابه بأسباب غير صحيحة، فيها شيء كبير من الريبة، فالشاعر هنا لم يعتذر وإنما ألقى باللوم على الوليف في صدّه نتيجة أسباب غير صحيحة.

عــــايشٍ مَعْـــــكْ بحضـــوري وبخلــــوِّي

                                 مـــــا خليتْ إلاَّ بخيــــــالكْ أختلــــــي بِــــهْ

وهنا يعود الشاعر إلى استرقاق قلب محبوبه ويصفه بأنه يعيش معه في حضوره بين الناس وخلوته مع نفسه، وأنه لا يختلي إلا بخياله، وهذا ما يبعد بسلوك الشاعر عما ذكره في الأبيات السابقة من وعيد وتهديد، وإنما يعود إلى أسلوب الاسترقاق والعطف، وبهذا تختم القصيدة في شقيها المقدمة ووصف الذات والنسيب، ليدخل الشاعر بعد ذلك إلى لغزه الذي ذكره في ثلاثة أبيات أخيرة من القصيدة أترك ذلك للقراء ليتفاعلوا معه ويسهموا في حله متمنياً لهم التوفيق في ذلك.

Email