أمس واليوم

صاغة من الإمارات تألقوا باكراً.. عائلة الناعبي احترفت الذهب والفضة إبداعاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

الصياغة مهنة تاريخية معروفة، ويقيناً أنها مستمرة في ازدهارها، لكن من المؤكد أن من يصبح صائغاً يتحول مبدعاً، لأنها بلا شك من الحرف العريقة، ولأنه ينغمس في عوالم ورحاب حرفة تُبعد الكسل عن روح ممتهنه، أما السر ففي الموهبة التي تدفعه وتجعله تواقاً إلى الإبداع، ليُشكل من هذا المعدن القاسي ثقافة تنويرية فنية عامة، من خلال الاقتصاد المزدهر والمجتمع المتنوع بذوقه.

يخرج الصائغ بحرفته ليُشكل إبداعاً متفوقاً، ولكنه يَتشكل أيضاً، لكونه ابن مجتمعه الذي لديه طلبات خاصة حسب ظروفه ومناسباته من سلاح وزينة، فيصبح الصائغ برتبة فنان، وبمقاييس خاصة يتخذ من صناعة المعدن طريقاً لأهداف اقتصادية وإنتاجية أيضاً، لبلوغ منازل الفن والإبداع الذي يعطي انطباعاً مجرداً أو ذاتياً، ليتجلى ويخوض تعبيرات فنية ورسوماً تعزز عاطفة الجمال لدى مرتديه وحامليه من حلي وسلاح.

عائلة الصايغ الناعبي

ازدهرت العائلة في حرفتها التقليدية منذ عام 1850م، حيث كانت تسكن ضواحي مدينة العين، صاغت الطلبات آنذاك من سيوف وخناجر، وأخذت تتدرج نحو الحلي والزينة، فكانت الفضيات حينئذٍ هي المتداولة بفضل رغبات الناس الجمالية المتداولة، ولاعتقادهم بالعين الحاسدة لكون هذا المعدن مانعاً للعين من اختراق الأجساد.

كما ذكر ذلك في كتاب «صياغة السيوف والخناجر التقليدية في الإمارات» لحليمة الصايغ الناعبي، أن المرأة منذ الأزل شغوفة بالتزين وارتداء الحلي بنقوش تستمد فكرتها من الطبيعة والهوية والاعتقاد، وكذلك الرجل الذي أدمن في تاريخه سيوفاً وخناجر منقوشة وممهورة بهوية أرضه ومكانه.

تصاميم

تنوعت تصميمات العائلة، بين المحفورة والمخرومة والبارزة، فمنها ما كانت لفتيات ومنها التي للفتيان، مروراً بالقلادة التي تسمى «مرية»، وحلق الأذن «الشغاب» والخواتم، وانتهاءً بالتحف المنزلية وصناديق التخزين، لتنتشر المنتجات العائلية أثناء انتقالاتهم بين جميع القبائل في منطقة الجاهلي وجبل حفيت والمعترض والظاهرة في العين، وخاصة في عهد الشيخ خليفة بن شخبوط آل نهيان الذي تولى الحكم في سنة (1833 – 1845م).

تمر الأيام في ذلك القرن، لتستمر الأسر البدوية من سيدات ورجال، في اقتناء حُلي من الفضة والذهب، إضافة إلى كونها زينة وترفاً، فإنها كانت تعد أيضاً ثروة تحمي من نوائب الزمن، وبديلاً للأرصدة المالية كما هي هذه الأيام، وبما أن صناعة الصائغ تطورت إلى خزينة فعلية أمام الزينة، أدخلوا التطورات في منتوجاتهم العائلية للجذب، فكانت عُملة ماريا تريزا المستخدمة آنذاك في التعاملات، سواء في أبوظبي أو في منطقة الخليج العربي عموماً.

انتقال

استمرت العائلة بأفرادها من نساء ورجال في المراحل الزمنية المختلفة، تصوغ الطلبات التي كانت في ازدياد، وبالتالي تتطور في حرفتها وتتوسع، لتتجدد السيوف والخناجر والحلي والأثاث، وتستوعب نضج الموروث أمام الوعي القائم بين الأمم في ثباتها وتغييراتها، ولتدخل النقوش بزخارف أكثر دقة في تاريخ الإنتاج أمام صفائح جامدة تستسلم بسهولة في أياديهم التي باتت خبيرة.

تطورات

تغيرت الظروف الاقتصادية في أبوظبي بعد اكتشاف البترول، وتراجع النشاط الصناعي وتجارة اللؤلؤ، وتدهورت حرفة الغوص، وعلى إثر كل ذلك انتقلت عائلات متضررة في تجارتها إلى إمارة دبي التي كانت بالمقابل تعيش انتعاشاً تجارياً، ذلك في ستينيات القرن العشرين، ومن ضمنها عائلة الصايغ الناعبي، لينتقل بعض أفرادها ويستقر في منطقة الراشدية بعد منطقة بورسعيد.

ثم يتم فتح ورش منزلية يمارس فيها مجمل أفرادها الصنعة بتنوعها الجمالي، وشرعت تتوسع في تجارتها بعد الشهرة نحو بقية المنطقة، وبدأت تنهال الطلبات عليها من سلاطين وشيوخ وأمراء وأفراد، لتستمر صفقات الطلب نحو التحف والهدايا.

خناجر

تبقى صناعة الخناجر في صدارة صناعات العائلة التي تميزت بهوياتها المختلفة، اليمانية والعمانية والبحرينية والسواحلية، والأخرى من مختلف المدن في جزيرة العرب، فكانت الصياغة تأخذ طريقها من الصناعة إلى النقش المحفور برموز مختلفة فإلى حياكة القطاعة، وبدأت تأخذ الشراكات العائلية طريقها لممارسة عملها الموروث بثقة، أباً عن جد، وأصبحت تنتقل الحرفة إلى الأحفاد الذين أخذوا دورهم في توزيع أدوار العمل، إضافة إلى التعاون فيما بينهم.

ورش

استخدم الصاغة أدواتهم وسخّروا الأدوات كلها في ورش منظمة بعد أن كانت الورشة تحت ظلال الغاف والسدر، وأخذت الصياغة دورها نحو التجمعات الحرفية في الراشدية، وهذا الاستقرار أدى إلى صناعة أجمل القطع، فكانت المرحلة الأكثر ازدهاراً هي من الستينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين، بل أصبحت المرحلة الذهبية للعائلة، لأنها أخرجت أجمل التحف وأندرها، لتثري تراث الإمارات بأغنى القطع.

ابنة العائلة

أصدرت ابنة العائلة حليمة عبد الله راشد الصايغ الناعبي في عام 2013م كتابها «صياغة السيوف والخناجر التقليدية في الإمارات»، لتحمل على عاتقها التوثيق الصناعي والفني بالشرح والصور لتاريخ الصاغة في عائلتها، إلى جانب مهاراتهم خلال قرن أو ما يزيد على القرن من الزمان، وتذكر بدورها الصائغات من جداتها وسيدات العائلة، ومنهن: الأختان شمسة ويوخة، إذ خرجت من بين أناملهما الأنثوية أجمل المنتوجات الناعمة والزخارف التي تعتمد على المخازر.

وتحكي غرزهن انفراط فن الحياكة في القطع الفنية، إضافة إلى كشفهن عن خصائص الحرفة الاجتماعية للصاغة، يبقى اكتساب كل منهما صفات جميلة مع اختلافها، لكونهما عاشتا بين جماليات إنتاج العائلة ومدرسة الصاغة. أما السيدة غريبة، إحدى أفراد العائلة، أنتجت الخواتم والقلائد، لتبيعهن وتسهم مع الرجال في شراء السلع الغذائية الرئيسة كالقمح والمواشي، وهكذا كانت تتحول حياة الصائغات حينها إلى أداء دور مهم، خاصة في فترة الكساد التجاري.

سعيد الصائغ

صائغ من الرعيل الأول، وهو سعيد محمد حسن الصايغ الناعبي الذي ولد في بداية القرن العشرين، ولقب بـ«الناعبي» ارتباطاً باسم نوع من أنواع الزخارف الدقيقة التي كان ينفذها كصائغ ماهر على منتجاته المتنوعة، فمنذ التاسعة من عمره كانت اتجاهاته الفنية متنوعة، ليتعلم الصياغة مبكراً حتى أنشأ ورشته الخاصة وبدأ حرفيته اليدوية مع أخوته، وأصبحت ورشته مع الوقت ورشة تعليمية، ليستمر مع الأبناء والأحفاد في المجال، ومن ثم عاشت الورشة في كل مواسمها منتعشة، وذلك حتى نهاية القرن، لأنه عزز ترابط الأسرة بأن جمعهم تحت ظل فن الصياغة والإنتاج، مؤسساً بذلك تراث المكان لينتقل إلى أقاليم مجاورة.

ماريا تريزا

زينت عائلة الناعبي عملة النقود ورصعوا بها قلائد الفضة التي بدت فنية وجميلة بصورة الإمبراطورة النمساوية ماريا تريزا على وجه كل عملة على حدة. واستحسنت العائلات وجود العملة مزينة على الصدور، فكانت مساعدة على تطوير صياغتهم، مستبدلين صورة الإمبراطورة مع الوقت بحروف ونقوش أخرى في ورشهم الخاصة، خاصة أن المناجم المعدنية بعيدة عن المكان ونادرة.

احتراف أسرة

لا تزال الذاكرة تقتنص ما لدى صائغ السيوف والخناجر راشد محمد بن حسن، الذي اكتسب الصفات الجبلية من قوة وشجاعة، وذلك لانتقاله بين الجبال والحِيَر، وكان حلمه كبيراً، فبعد أن أنجب بناته الثلاث: فاطمة وأصيلة وغريبة، أوقظ في روحهن حب التطريز وفن التزيين بالأسلاك الفضية والذهبية على الواجهات الأمامية لخناجره.

وتمر السنوات ويصبح له الفضل في تأسيس تاريخ الأسرة الإنتاجية، ذلك في تعاون أسري لا مثيل له، بدءاً من زوجته ومروراً ببناته وأولاده، فهناك من يصوغ وهناك من يعالج وينقش ويحفر ويزين، لتخرج الحصيلة متناسقة ومنسجمة، حتى وفاته في ثمانينيات القرن العشرين.

الصائغ المؤسس

أنتج المعلم محمد حسن الناعبي، الذي عاش في عهد الشيخ زايد الأول حاكم أبوظبي، الكثير من المصاغ، ونشأ متنقلاً بين القبائل في المناطق الصحراوية والساحلية والجبلية، كما علم أبناءه جميعاً المهنة وأثر فيهم، ليؤثروا بدورهم في التراث الإماراتي، خاصة في الأزياء التي يتزين بها الرجال والنساء، فحدث أنهم بعد مرور الزمن أصبحوا من الصاغة الخاصين للأسرة الحاكمة في إمارة دبي، ليؤسسوا ورشات خاصة في القصور، وينتقلوا من بيوتهم العديدة بحرية للحاق بالطلبات، بين الشندغة وجميرا والغبيبة، ومنازل أخرى بعيدة مزودة بالورش في المناطق الجبلية والحيور.

عميد الصاغة الناعبي

ولد الصائغ عبد الله راشد محمد الناعبي في أسرة يعمل جميع أفرادها في الصياغة، فخرجت أمام عينيه أجمل القطع الفنية، وبالأخص من بين يدي والدته الصائغة مريم خميس ووالده راشد وأعمامه وأخواله الذين تدرب لديهم. وكانت فرصة عظيمة له لاكتساب المهارة الكاملة في ورش العائلة العديدة، لتسجل ذاكرة طفولته غالبية الفنون في الحقل.

كبر وأخذ يفيض بما لديه من موهبة ويكشف عن خبرة نادرة في صياغة الحلي الخليجية والعصي المطعمة بالفضة، والمداوخ التي صنعها من العاج وطعمها بالمعادن وسلاسل الذهب والفضة المتدلية بجمال على الصدر. وقد توسع على مستوى دول الخليج العربي ليلقب بعميد الصاغة، خاصة أنه تخصص في إنتاج المصاغ الرجالي في السبعينيات من القرن العشرين.

1969

توفي هذا العام بدبي، شيخ الصاغة التقليدية عبد الرحمن الشلي، الذي أنتج مئات المصوغات، من المرتعشة وسلاسل الذهب..إذ أطلق عليها اسم «بندر حصير».

113

عاشت «يوخة» ابنة معلم حرفة الصياغة محمد حسن 113 سنة، وهي امرأة قبلية قوية من الجيمي بالعين، أسهمت بالكشف عن خصائص الحرفة، قبل انتقالها إلى دبي.

10

وثقت صورة الخنجر الساحلي الإماراتي الشهير بالعملة النقدية الإماراتية: 10 دراهم. وهذا الخنجر الذي أنتجته عائلة الناعبي تزين به جميع أفراد المجتمع.

Email