«بيروت بيت بيوت».. سوسيولوجيا المدينة بلغة ساخرة

مشهد من مسرحية بيت بيوت ــ من المصدر

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تترك بيروت خشبة المسرحي (مؤلف ومخرج وممثل) والشاعر والصحافي يحيى جابر. فهي لازمته في مجمل أعماله وهو ابن الجنوب في دفتر القيد، وابن بيروت في الهوى والتربية والحياة السياسية والثقافة.

حكاية بيروت مع صاحب «ابتسم أنت لبناني»، ليست حكاية رجل مدينيّ بامتياز، بل هي حكاية عشق ومبدأ والتزام وتاريخ شفوي شعبية يحفظه يحيى عن ظهر قلب ويترجمه ببساطة المياه الجارية.

ويبدو أن جابر مصر على كتابة وإخراج مسرحيات عن بيروت ليعريها ويُسائلها ويلومها ويبحث في مكنونات نظامها الاجتماعي والسياسي، وهو ما يظهر جلياً في مسرحية «بيروت بيت بيوت» التي يقدمها والممثل زياد عيتاني، على «تياترو فردان». وهي المسرحية الثالثة من ثلاثة «بيروت الطريق الجديدة» وبيروت فوق الشجرة.

ظاهرة

ثلاثية جابر وعيتاني شكّلت ظاهرة في المسرح البيروتي نظراً لجذبها جمهوراً عريضاً يختلف عن الجمهور النخبوي للمسرح أو الجمهور المتخصص، ونظراً لتناولها تاريخ مدينة وتحوّلاتها أزماتها وإخفاقاتها وتاريخ عائلاتها وسياسييها ومجتمعها وطوائفها في مسلسل مسرحي متصل منفصل ليس أوله المسرحيات الثلاث المذكورة سابقاً.

والقوة تكمن في نص جابر أنه يُبسّط النص العميق ببعده السياسي والانتروبولوجي والتاريخي، ويجعله مرِناً بسيطاً وخفيفاً، فيتلقفه المشاهد وهو يضحك في ساعتين من التسلية. وقد شكّل جابر وعيتاني ثنائياً ناجحاً لهذا النوع من العروض التي لم يألفها المسرح اللبناني في السنوات العشر الأخيرة، إذ باتت المسارح شبه مهجورة.

فهما حاولا كسر السائد، إذ يتأرجح النص المسرحي اللبناني بين الاقتباس حيناً، ونحو الشعبوية الملغومة بالجنس المبتذل أو السياسة «الكليشيه» تارةً. ونجحا في وضع نص بلسان الشارع اللبناني البسيط العفوي وانفعالاته، ومن دون محاولة الاستعلاء على الناس أو تصويرهم كحالة للعلاج.

واستخدما لهجة الناس في مناطق بيروت الشعبية. وفي حين اشتغل يحيى على نص ذكي وإخراج متقشّف يعتمد على أداء الممثل المنفرد الذي يأتي دوره بين الحكواتي والمونولوجيست والمشخصاتي والكوميدي، اشتغل عيتاني خفيف الظل والعفوي على تطوير الشخصيات وارتدائها لتلبسه لبساً مستفيداً من إتقانه للهجات الشعبية كونه ابن بيروت. وقد عرف عيتاني كيف ينقل روح النص بأمانة ليلمس المشاهد.

وجه المدينة

في بيروت بيت بيوت التي تعتبر الأنضج (من حيث التمثيل والسيناريو) بين الأعمال الثلاثة، نرى وجه المدينة الشعبي الحقيقي من دون أي «ماكياج»، من خلال يوميات طفل بيروتي (أباً عن جدّ) يكبر ويترعرع في مبنى وقف الروم الذي تسكنه عائلات من مختلف الطوائف اللبنانية. بلغة بسيطة رشيقة ونص ممسوك يعتمد على البحث والتاريخ والانتروبولوجيا، تتراءى إلينا حياة هؤلاء وزيجاتهم وعاداتهم وأفراحهم وحروبهم الصغيرة والكبيرة.

وبحوار درامي كوميدي ساخر، يستمتع المشاهد بقصص وحكايا طريفة ومحزنة يجمعها خيط نقدي لاذع، حول المناكفات بين الشيعة والسنة مثلاً، أو بين الروم والموارنة، أو بين الإسلام والمسيحيين... وكيف تعاملت القوى السياسية مع أهل المدينة بشكل جعل حقوقهم شبه مغدورة، ودفعوا فيها ثمن كل التحولات من دون أن يستفيدوا منها.

أداء

ويجسّد عيتاني بأدائه المحبب وعفويته حياة هذا الطفل الذي يولد إبان اليوم الأوّل لحادثة «بوسطة عين الرمانة» الشهيرة (13 نيسان 1975)، اليوم الذي أرّخ لبداية الحرب اللبنانية، متناولاً ببراعة لشخصيات بيروتية أصيلة (ذكور وإناث)، مستفيداً من عمليه السابقين مع جابر بيروت الطريق الجديدة وبيروت فوق الشجرة.

ويتطوّر الخط الدرامي ليصل إلى علاقة زياد السني بزوجته الشيعية جومانا وما بينهما من أحداث وأخبار عن أهل الحيّ وقصصهم المترابطة ارتباطاً وثيقاً بتواريخ الحروب اللبنانية في الأحياء وعلى المعابر، وداخل البيوت.

لغة مسلية

بيروت بيت بيوت تجسّد وجوه المدينة بلغة مسلية تضحكنا وتبكينا على وضع أليم يستمرّ في التشرذم وتتّسع فيه رقع الانعزال.

Email