شباب@قصة

الشيء الوحيد الذي أجيد فعله

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

اليوم، بعد مضي كل هذه السنوات، لا أجد ما أحتفل به، لا أعرف تواريخ ميلاد أبنائي، ولا يوجد لدي أصدقاء، ولا توجد بحوزتي حياة اجتماعية حقيقية، الذي يتواجد معي وبين يدي، هو تمكني من التنفس، وممارسة حياتي في فراغ تام، وإذا كان أحدكم يمتدح ويحب الفراغ، فيمكنه أن يجرب أو يحاول أن تمضي به الأيام دون أي تواصل من الآخرين، دون أي اتصال، حتى وإن كان خاطئاً..

وحتى أوضّح الصورة، فإن مثل هذا الوضع يشبه لحد كبير الموت، ولكنه أقسى، ذلك أنك تحتل حيزاً على الكرة الأرضية، ولكن لا أحد ينتبه لوجودك، ولا يعيرك أي اهتمام، كأنك شبح، تشاهد الناس، لكنهم لا يرونك، وتسمع الأصوات ولكنك دون صوت، هذه الوضعية مؤلمة من عدة أوجه، واحدة من هذه الآلام، أنها تعطيك صورة حقيقية لما سيكون عليه الوضع في حال توفاك الله، وهي أنه لن يحفل أحد بفقدك، ولن يهتم أحد لغيابك، ولن يتوقف أحد عند قبرك، فكيف بانهمار دموعه.

لكن لماذا تأنيب النفس، فهذا الفراغ لم يأت من لا شيء، أو دون سبب، بل جاء من ممارسة قمت بها، وتوجهت نحوها، وحتى أصدقكم القول، لا أعرف لماذا؟.

اقترب مني الطبيب، أمسك بيدي، فتحت عيني، ونظرت نحوه، فقال:

- هل الغرفة باردة؟

في الحقيقة، ليست الغرفة وحسب، بل هذا العالم بأسره، هكذا كنت أريد أن أجيبه، ولكن ما جدوى مثل هذه الكلمات لإنسان عابر، يقوم بوظيفته، التي يقتات منها، هو يحاول علاج ألم جسدي، لكن آلام النفس، يبدو غير معنيّ بها، وحتى لو حاول أو رغب فإنه لن يستطيع، فلديه قائمة طويلة من المرضى، كتب بضع كلمات في تقريري الطبي، وغادر الغرفة.

عدت أستحث ذاكرتي لاستعادة الذكريات، لعلي أسلي نفسي عن هذا الوقت الطويل، ويا للهول لم أجد فيها ما يستحق التوقف أو حتى الذكر.. لا توجد أي ذكرى للعب مع أطفالي، ولا أتذكر مرافقتي لهم نحو المدرسة، ولا مشاركتهم اللعب، لا أعرف كيف كبروا، كيف عاشوا مراحل العمر، حتى زوجتي لا أفهم كيف فرطت بها، وتركتها تمضي وتبتعد، أي عقل كنت أفكر فيه.. مشاكل، الحياة برمتها محملة بالمشاكل، ولا تحل المعضلات بطريقة التجاهل والتخلي والابتعاد، هذا ليس علاجاً، بل هذا تنكر، وجحود، لا أكثر.

حضر أحد موظفي المستشفى، وهو يحمل بين يديه سجلا، وقال:

- اطمئن، نحن نحاول الوصول لأحد أبنائك، وسنتصل بهم قريباً، وسيحضرون لمقابلتك، مؤكد أنهم الآن قلقون عليك كثيراً..

هنا أدركت أنه يكذب، فهو لم يجد من يرد على اتصالاته، أو أنه تلقى رداً قاسياً، ويريد إخفاءه عني حتى لا أتأثر، وبما أن الموضوع يتعلق بالأكاذيب، ومراعاة النفسية، فقد ابتسمت، وهززت رأسي موافقاً على كلماته.. لكنه جلس بجواري، وظل يقلب الملف بين يديه، ثم رفع رأسه وسألني:

- هل لديك أقارب آخرون؟ حتى يمكنني الاتصال بهم.. أخشى أنهم قلقون عليك...

ابتسمت، فهو يكشف عجزه عن مساعدتي، لكنه عاد ليواصل حديثه، أمام سطوة نظراتي نحوه، فقال:

- معظم الناس، لا يردون على المكالمات الهاتفية التي تأتي من أرقام لا يعرفونها..

ثم نهض، وهو يضع يده على صدري، ويقول:

- اطمئن لن يهدأ بالي حتى أجد أحد أقاربك، الموضوع بسيط جداً، لا تقلق..

في الحقيقة، لم أكن قلقاً، أما هو فقد كان غاطساً تماماً في بحر من القلق، والتعاطف معي...

مضى ذلك اليوم برتابته المعتادة، ودون أي مفاجآت، أو دون أي جديد، وقمت أنا بما أجيده، أو بالشيء الوحيد الذي استطيع فعله، وهو الخيال والنوم.

Email