شباب@قصة

ساعة رملية

ت + ت - الحجم الطبيعي

استيقظت كعادتها قبل ساعة من صوت المنبه، لم تكن الشمس قد أشرقت بعد، هكذا عودت نفسها، كيلا يعلم نصفها الآخر أنها أمضت الليل باكية، نهضت سريعاً لتجهز نفسها وتبدو بأبهى حلة، بعد أن أخفت آثار البكاء بكحل أسود وظل ترابي اللون.

لم تكترث لما قد تبدو عليه أخيراً، فقد اعتادت أن تكون أنيقة «دائماً»، مهما ارتدت وكيفما بدت. بالأحرى، هي تكره الوقوف أمام المرآة كيلا ترى تلك الساعة الرملية! لملمت شتات نفسها وبقايا وجع الأمس التي سردتها كلها في ورقة بيضاء ستلقيها اليوم في مؤتمر عالمي.

كانت تكره انفصام شخصيتها كلما تظاهرت بالقوة أمام الملأ، بعد أن تغادر جدران منزلها.. تكره صورتها التي أوحت للناس أنها امرأة عاملة، قبل أن تكون امرأة فقط. في ذلك اليوم، قررت أن تقول كلمتها بصدق.. بشخصيتها الحقيقية، بلسان المرأة.. الأنثى.. ووسط تصفيق المئات، وقفت «شخصية العام المثالية» لتلقي كلمتها:

«يعتبرني الناس هنا قدوة بالنسبة لهم، في ذكائي ومهاراتي، وفي رباطة جأشي حيال المشكلات التي تداهمني في العمل بين الحين والحين. الناس هنا يرون أني الأمثل لقيادة فريق العمل والسير به نحو مراحل متقدمة. يجدون في ذاتي، القائدة التي لا تقهرها الظروف، والأكثر فاعلية في إبراز طاقات موظفيها. وحين يلتفتون إلى الجانب الأنثوي مني، فأنا الجميلة الأنيقة البسيطة اللافتة.. والعشرينية الدائمة. لم تتسنَ لي فرصة أن أقدم اعترافات شخصية، أو أن أظهر للملأ جوانب لم يعرفوها عني من قبل. لكني لن أجد أفضل من اليوم، وقد لا تواتيني فرصة مشابهة في المستقبل... فبداخلي أتهاوى... وقد لا أتمكن من قلب حياتي مرة أخرى.

القوية التي أمامكم اليوم، كانت ليلة البارحة غارقة في دمعها، تماماً كالليالي التي سبقتها. القوة التي تعتريني بين الحين والحين، مجرد قوة مؤقتة، تداهمني فجأة.. ثم تغادرني فجأة.

لا يمكن لأنثى فقدت ابنها الوحيد، أن تظل ملامحها مبتسمة طوال اليوم، فقطعة الروح تلك ظلت قابعة في زاوية من زوايا بيتي، تشاركني أدق تفاصيل حياتي، تشهد على انهياري ووقوفي.. ثم انهياري ثانية. تقتلني في اليوم ألف مرة، كلما اشتاق جسدي لعناق ابني، والشعور بطراوة كفه كلما أمسك بي. لا يمكن للأنثى ولدت بملامح لا تشبه عرقها، أن تتجاوز كلمات الناس، وسخرياتهم، أو أن تقول (لا يهم)، دون أن تولد غصة متعسرة في مجرى تنفسها. الأنثى تموت لأسباب تافهة، وتحيا مرة أخرى بأمور أتفه!، كم مرة متُّ بسبب كلمة قيلت في غير محلها، وكم مرة عدت للحياة مجدداً بعبارة (صباح الخير) مصحوبة بابتسامة... هذه البسيطة، أبسط بكثير مما يخيل لكم!

من تقف أمامكم اليوم بكامل شموخها، قادرة على التحكم بميزانية تقدر بالملايين، ويمكنها تحمل مسؤولية أي إخفاق وأي عقبة تواجه مكان عملها، لكنها لا تقدر على وقف شريط ذكرياتها، كلما أعاد نفسه في عقلها. هكذا أنا.. ساعة رملية.. صلبة من الخارج، لكن روحي تتهاوى بداخلي، تماماً مثل حبات الرمل.. أقلب حياتي رأساً على عقب بين الحين والحين، كي أبدأ من جديد، وكلما بدأت من جديد، عادت روحي لتتهاوى من جديد.

إن كنتم ترونني قدوة، وما أفعله في عملي يعد إنجازاً، فاعلموا أنكم قد تكونون أفضل مني، وأقدر مني على القوة الحقيقة لا المؤقتة.. قد تكونون أجدر مني في كل شيء. اليوم، قلبت حياتي رأساً على عقب، كي أتمكن من الوقوف أمامكم، أريد أن أعيش هذه اللحظات الجميلة، قبل أن تبدأ روحي بالتهاوي مرة أخرى»..

وقف الجميع تحية لها، في حين لم يعرف أحدهم، أكانت عيناها تتلألأ من الفرح.. الدموع.. أم عدسات التصوير.

Email