وداعاً « أبو وطن».. سلّم على درويش

سميح القاسم.. قيثارة فلسطين لن تصمت وشِعرك يداعبها

ت + ت - الحجم الطبيعي

بكت القصيدة ووجمت روح الشعر، أول من أمس، في ديار العرب، بعد أن أسكت الموت «قيثارة فلسطين»، الشاعر العروبي سميح القاسم (1938-2014)، فجلل المشهد بشحوب وتعب عانقاً وجع غزة وعمقا جروح وأحزان أهلنا وأطفالنا وأشجارنا وأطيارنا، في القدس وفي الجليل ويافا.. وفي بيروت والشام. ولكن، مُحال أن تصمت القيثارة ويخبو شجوها أبداً، لأن «أديب المقاومة» ورفيق درب محمود درويش، باق فينا وبيننا، بما أودعه من وصايا شاغلها وقضيتها الأرض والحرية والعدل والإنسانية. إذ أبى الرحيل قبل أن يلهمنا إجادة الغناء للوطن، ونحن ننفحه أعذب الكلام وأنبل الأفعال المنسوجة على نول الصدق والتضحية والوفاء، بينما نستمر في عزف لحن فرح وتحد يقهران عنجهية السرطان/ المحتل.. ويتساميان بنا لنشمخ «منتصبو القامة» بين بياراتنا وفي ظلال زيتوننا.

راوٍ مجيد


نم قريراً يا «أبو وطن»، فمعركتك كانت طويلة، وأنت خضتها مسكوناً بالحب والتضحية والعروبة والقصيدة. ولتطمئن، لن يجف نهر الشعر المقاوم أو يقل منسوبه، كما كنت قد تخوفت ذات مرة. إذ إننا، دوماً سنردده.. ونذاكره فنذكرك يا أيها الراوي المشبع بدراما القصيدة المنثورة في جنبات «بستان شعرك» المليء عوسجاً وريحاناً، وكلمات تسافر بنا إلى شواطئ الجمال، حيث يقيم الحق والخير ويدويان بأناشيد ومعاني «البيان قبل الأخير»:
لاَ. لاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ..
يَوْمُ الْحِسَابِ فَاتَكُمْ
...
كُلُّ شَهِيدٍ غَيْمَةٌ
تَصْعَدُ مِنْ تُرَابِنَا
تَهْمِي عَلَى حِرَابِكُمْ
وَمَرَّةً أُخْرَى وَرَاءَ مَرَّةٍ أُخْرَى
يَعُودُ غَيْمَةً مِنْ بَابِنَا

لم يك ساكن الجليل وعاشق فلسطين، يرتضي قصيدته، يوماً، إلا والرمز يجدل ضفائرها ليحيلها صرخة ومغامرة في واحات الفن ومرابعه، ممعناً فيها بتلذذ قطوف عناقيد دهشته الفرِحة، المستعيدة بين المفارق، ذكريات الطفولة وحكايات الآباء وذكريات أريج فلسطيني لا تزال تخبئه أغصان الليمون ويثوي في أوراق الزنبق. كيف لا ولم تُسكت هذا الصوت الصادم الصداح بالحق، مرة، الاعتقالات والتخويف، بل داوم على أن يُريق كلماته لتقبل بطاح أرض خبرها قابضة على جمر التاريخ وجذوته..لا تنفك تنبئ الزائرين الطغاة أنهم لا بد راحلون، كما فعل من قبلهم.
وتر واحد
جمع سميح القاسم في أشعاره تناقضات كثيرة، فصهر مذاهب الكلاسيكية والسريالية والواقعية، بإتقان، لكنه أبقاها مشدودة إلى وتر موقفه الرافض للظلم والاحتلال. وهكذا اشتبك لديه السياسي بالوجداني وبالاجتماعي، والمجرد بالمطلق. وكان يجيد، مع كل مرحلة، تذخير أدوات تعبيره بمعين تراكم معرفي ووجداني، علم مبكراً أنه من طبيعة الحياة.. تلك الحياة التي لم يرها سوى «وقفة عز»:


«يموت منا الشيخ والطفل
ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى
ولا تستسلم..
تقدموا..».

شاعر الانتفاضة

طالما كان سميح القاسم وفياً لشعره ومواقفه. وهكذا اختار، حين أحس أن القصيدة تحتاج أن ترتوي بعبق فعل النضال والمقاومة، أن يكون في الشارع والساحات خلال الانتفاضة الفلسطينية على المحتل الإسرائيلي. فجادت قريحته أثناءها بأبلغ الأبيات في وجه الطغاة، موجهاً «رسالة إلى غزاة لا يقرؤون»، فحواها أن عزيمة هذا الشعب (الفلسطيني) (لا تُفل): «نحن قضاء مبرم». ومثلت تلك القصيدة «قصيدة الانتفاضة» فعلياً، كونها أول عمل شعري متكامل كتب في ومن قلب الانتفاضة. وأيضاً، ما كان شاعر فلسطين وصوت المقاومة، ليرتضي يوماً، جواز سفره إلا ممهوراً بضمخ القصيدة ببعدها الوطني والعربي والإنساني، وبذا، استمر يناجي لبنان ويذكر الخليج ويسأل عن حال بغداد والعراق والشام واليمن، رافضاً، في الوقت نفسه، أي محاولات لتغريبه فكرياً وروحياً، أو لمحو ذاكرته العربية الفلسطينية والمقدسية، التي أدمنت شجب ((مدينة الحقد والجوع والجماجم)):
«غداً.. يا قصوراً رست في القبور
غداً يا ملاهي.. غداً يا شقاء
سيذكر هذا التراب، سيذكرُ
أنّا منحناهُ لون الدماء
وتذكر هذي الصخور رعاةً
بنوها أدعية من حداء
وتذكر أنّا...».

.........................

رحيل مؤلم


نعى اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، أمس، الشاعر والمناضل الفلسطيني سميح القاسم، في بيان جاء فيه: «إن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، يشارك عائلة الراحل، وزملاءه من الأدباء والكتّاب الفلسطينيين والعرب، وقراءه ومحبيه على امتداد الوطن الكبير، مشاعر الألم والحزن لرحيل هذه القامة الشعرية الباذخة، التي كانت عبر منجزها الإبداعي وتاريخها النضالي أحد العوامل المهمة في بقاء القضية الفلسطينية، حية في الوجدان». كما أرسل حبيب الصايغ رئيس مجلس إدارة الاتحاد، برقية تعزية إلى الشاعر الفلسطيني مراد السوداني، الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، عبر فيها باسمه شخصياً، وباسم أعضاء مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وأعضاء الاتحاد، عاملين ومنتسبين، عن حزنه العميق لرحيل الشاعر.
...........

رثت ابنة شقيق سميح القاسم، إيمان القاسم سليمان، عمها، في قصيدة «في رثاء عمي الشاعر سميح القاسم»:

لأول مرة ترتجف يدي وأنا أكتب ..
كيف أقول لك وداعاً وأنت جزء من الروح
وتسكن في الوجدان؟
...
أسميك نرجسة حول قلبي
وقلبك أرضي وأهلي وشعبي
..
درويش ينتظرك لتتحاورا في مكالمة شخصية جداً
..
فرحتي حزينة اليوم يا عمي
سنبلتي حنت رأسها
..
رحمك الله يا شاعر الأرض والكرامة
رحمك الله يا عمي

Email