أدباء ومفكرون يؤكدون الصلة الوثيقة بينهما

الإبداع وفوضى الحياة..وهم التوأمة وحقيقة الارتباط

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما تُقرن أحاديث سير الإبداع والمبدعين بنموذج الحياة الفوضوية المنفلتة من قيود التنظيم، وربما فُهمت، أحياناً، على أنها ميل إلى الصخب واللامبالاة والبعد عن الجدية.

إلا أن حقائق التاريخ ومؤدى إسهامات غالبية الأدباء والشعراء والفنانين في هذا الإطار، تبرهن أن فوضوية المبدعين لم تعنِ أبداً بعدهم عن الالتزام بقضايا المجتمع وهمومه، فالعديد من هؤلاء قدموا للبشرية، في مواقفهم وفي جوهر إبداعاتهم، منتجا فكريا نوعيا في تأثيره، تخلق في الواقع مفعما بالأحاسيس البناءة والرؤى المعبرة بشفافية عن حاجات التغيير والتطوير المثاليين في المجتمع. فماذا عن سر شيوع وتأثيرات مثل هذا النهج في عوالم الإبداع؟ وما أبرز النماذج؟

لا يمكن ان ننظر إلى المبدع في حالة وواقع فوضى حياته وعدم انتظام برنامجه الحياتي اليومي، على انه ذاك الإنسان السلبي في دوره أو غير الملتزم والعابئ بمجتمعه ومحيطه، فالأمثلة الواقعية تبرهن أن مبدعين عديدين جسدوا بشفافية ودقة آلام مجتمعاتهم وهمومها.

وتبرز لنا مجموعة من المبدعين الغربيين في هذا الصدد، مثل بودلير (1821- 1867)، وكذلك رامبو (1854- 1891)، الذي تعاطى مع الشعر بعفوية وسهولة تماماً، كمن يبحث عن وسيلة تعبير تفجر مكنوناته الداخلية، وليس من باب السعي إلى الكتابة التي تشد القارئ، وبالتالي تجلب الشهرة والنجاح.

وهناك العديد غيرهم، في الغرب والعالم العربي، فمثل هؤلاء كانوا ينشدون في مسارهم، التخلص من روتين الحياة وبأسها وحزنها، عن طريق الانفلات من الضوابط المكبلة في المجتمع، والتخلص من أي روتين خانق مفكك ومثبط لرؤى الأفكار والأعمال الفاعلة.

فصحيح ان نموذجي المبدعين رامبو وبودلير مثلا الكآبة والحزن في ثوب الإبداع بايقاع فوضوي غير منضبط،لكنهما جسدا رؤى محرضة وإيجابية حتى مع حياة الفوضى، فطرحا أفكارا مهمة مهجوسة بالعمل على نشر الخير والمحبة، بينما كان الفنان التشكيلي الاسباني بابلو بيكاسو متمسكا بمفهوم فوضى الابداع كونه قرينة الحالة الابداعية.

مفتاح الرمزية

كان الشاعر والكاتب الفرنسي مالارميه (1842- 1886) أبرز نماذج المبدعين الذين اتسمت تفاصيل حياتهم اليومية بالفوضى، فكان من الرواد الذين اختطوا هذا النهج في تفاصيل حياة المبدع. ولكنه لم يقتصر على هذه الحدود، بل تعدى حد السلوك الفوضوي ليعكس مفـــهومه للـــحياة في إيقــاع إبداعي ينشد الفوضى، ويسعى للبناء من خلال الهدم للمتعارف عليه. وحرص مالارميه على تعمد توضيح إصراره على الانفلات من توليفة النظام الاجتماعي، وعكس هذا في نوعية إبداعاته، التي خالفت قواعد الشعر، فقدم معها أروع النصوص النثرية التي كسرت قيود الوزن، وبذا كانت مفتاح وبوابة ولوج عوالم الرمزية العميقة لديه. ووضح إلى جانب هذا، تركيزه على إبراز واقع ارتباط نهج فوضويته بالنظرة الفلسفية.

ملامسة قضايا الناس

يحتمل أنه لا يمكننا أن نتفق تماما مع حيثيـــات وتنويعات توصيف الارتباط الحتمي والعــــضوي بين الـــنزعة الفــــردية والإبداع، كما اكد كثيرون، وذلك بحيث نذهب لـــنؤيد معــها انطباق تلك الحال على الواقع الراهن، بدقة، أو على كل النماذج.

فهناك العديد من المبدعين كانت سمة فوضوية نهجهم في الحياة معيارا وأساسا لالتصاقهم بهموم الناس عبر القرب منهم، أينما كانوا. وأيضا ملامسة مشاعر ومعاناة كل الفئات، وهذا حتى ولو اصطبغت نزعتهم بالاستقلالية والعزلة أحيانا، فالمهم أنهم استكشفوا هموم الناس، وعرفوا ما يعانون، فانتجوا إبداعات مميزة عكست جميع هذه المضامين.

«ماركة عربية»

لم تكن صور اقتران الفوضوية والإبداع ضمن عوالم الإبداع في العالم العربي، وليدة العصر الحديث، وناتجة عن تأثرٍ بسيرورتها وفعلها في الغرب، وإنما كان هناك أمثلة كثيرة لأدباء عرب من العصور الجاهلية، اتسموا بالصعلكة وحياة التشرد، ولكنهم قدموا أشعارا خلاقة فريدة.

وانسحب هذا على الواقع الحديث. إذ برزت لدينا كوكبة من المبدعين الآخذين بنهج وحياة الإبداع والفوضى، ومنهم: محمد شكري ومحمد زفزاف. وفي المقابل، هناك من اتسموا بالالتزام والنظام في نهجهم الحياتي فنبذوا صورة اقتران الإبداع بالفوضى، مثل: طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.

شفافية ودور فاعل في حيادية لا هدف لها او تصورات

 ربما يقول قائل ان المفكر الفوضوي أو فوضوية النهج لدى بعض المبدعين، هي حيادية لا هدف أو تصورات وتنظيرات لها، إلا أن هذا يبدو غير صحيح أبدا، إذ نجد أن رموز هذا التوجه لعبوا كبير الدور في إيجابية التغيير والتطوير الاجتماعي، وخاصة في المجتمعات الأوروبية، وفي مقدمتها فرنسا وروسيا والنرويج وغيرها، والتي ظهرت فيها بوضوح تأثيرات دعوات وإبداعات الأدباء من هذا الاتجاه، إذ أخذوا يواجهون ويتحدون عرف الجهات المجتمعية المستفيدة من ما يسود من مساقات تأطير مسلكي وفكري، هي من لون واحد يخدم من يقودون المجتمع، وتهمش العامة، وتحارب من هم مغايرون في طقوس الإبداع والنهج والسلوك.

وهكذا تأتت وترسخت بفعلهم، نتائج مهمة كان مؤداها خلق أرضية خصبة لنظم التفكير والإبداع المفضي إلى التقدم والتطوير المجتمعي.

علامات فارقة

نتعرف على أسماء عديدة في التاريخ الحديث والقديم لمبدعين كانت سمة الفوضوية في الحياة متنفسهم وعوالمهم الأبدية، سواء على صعيد أسلوب العيش أو طبيعة وسمات المنتج الابداعي. ومن أشهر من مثلوا هذا الاتجاه الشاعر الصيني لاي بو (من عهد أسرة تانغ، عاش بين عامي 701 و762)، حيث بلغ أقصى منزلة في هذا المجال، وبقي طوال حياته، يروم الحصول على وظيفة في البلاط الملكي.

وفي التاسعة عشرة من عمره بدأ يهيم على وجهه وينغمس في حياة الفوضى واللامبالاة. وكذلك الشاعر والروائي الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون (1850 – 1894) الذي عد من أبرز الفوضويين والعبثيين في حياتهم.

كما آمن التشكيلي الاسباني سلفادور دالي (1904- 1989) بالفوضوية كمنهج وسلوك حياتي وإبداعي، مصراً على أنها تمثل القيمة الخلاقة والركيزية. وقد عبر عن رأيه بشكل صريح في هذا الشأن:( آن لنا ان نفهم الفوضى). ويتلمس المتتبع لحياة دالي مدى ميله إلى ذاك المسلك الجنوني، ولكنه برز لديه كمسلك عبقري فذ في الوقت نفسه.

وهكذا بقيت فوضاه سمة تميز وعلامة فارقة ابدع معها أروع وأقوى اللوحات. وكان في وحيها عنواناً خلاقاً للغرابة في الإبداع، وأيضا حتى الوصول إلى حدود اللامعقول، فطالما عكس أفكارا عصية على الإدراك على من هم دون المستوى، ودوما بقي المبدع المنتج للامعقول والخرافي. وهكذا فإن فوضى دالي، كانت وبحق، فوضى خلاقة، سواء ضمن منتجه الابداعي، أو سلوكه وحياته عموما.

كذلك وصلت حدود حياة الفوضى لدى الفنان الهولندي العالمي، فان غوخ (1853 - 1890)، إلى حد أنه غمر نفسه تماما في حياة الفوضى والتشرد، وعرف بصورته العبقرية من خلال لامبالاته، وذلك حتى في تأمين وادخار المال اللازم لمعيشته اليومية، إذ بقي يأخذ من أخيه ما يحتاجه من النقود، وأصبح هذا بالنسبة اليه، نهج حياة مستمراً، عماده التشرد والعبثية، ولكن تمخض عنه منتج إبداعي لا يضاهى بمستواه ورؤاه التجديدية. ولخص غوخ ملامح حياته في هذا السياق: (يبدو لي أني مسافر كتب له أن يلعب دورا).

مغالاة

مثلت (الدادائية) التي ظهرت في بداية الحرب العالمية الأولى، أحد أوجه المغالاة في نزعات تأليب وتطوير إيقاع الفوضوية في الإبداع، ولكنها لم تجار هذا التوجه بحذافيره، فبقيت تغرد في سرب آخر، وفي عوالم مستقلة. وهي طالت شتى جوانب الأدب والفكر والفن، وعكست روحية ثورة اجتماعية على الواقع، وكان رجالاتها أصحاب دعوة خصوصاً بهذا الاتجاه، ومن أشهر المنضوين في مساقاتها الفكرية، جاك بريفير.

وجه آخر

رسخت، في بعض المحطات، صورة متفرعة لأحد أوجه الفوضوية في حياة المبدعين، ووضح هذا الخط بجلاء في المجتمعات الغربية، وهي تمثلت في عبثية الرؤية والفكرة ومضمون المنتج الابداعي. وكانت برزت بشكل تام في منتصف القرن الـ20، إذ ركزت على حجة لها، مفادها معارضة واقع سائد فحواه ومضمونه أن الإنسان تحول إلى آلة.

وأراد رجالات هذا التوجه، محاربة نمطية تواتر مسيرة الحياة بناء على حكم وتحكم تكنولوجيا ونظام الآلة، والتي أخذت تحدد- برأيهم- أوجه ومفاهيم الحياة، فتحول معها الإنسان إلى الجمود والاستقرار في عوالم من القيود الغريبة، بعيدا عن التجدد والحرية في التعبير. وهو ما جعل المجتمع سائراً في مركب الانسجام مع الواقع الموجود، دون تفكير أو تأويل أو غير ذلك.

وتجسد هذا التوجه بجلاء في أوروبا، ضمن الأدب، خلال القرنين الماضيين، وذلك على ايدي مبرزين كثر، وبتأثير عدة أحداث مجتمعية وكوارث إنسانية جراء الحروب والثورات والتبدلات.

ووصل الأمر لدى بعض أنصار هذا الاتجاه، إلى الدعوة إلى ضرورة الابتعاد عن النهج العقلي، كونه -من وجهة نظرهم- سبب سيطرة الآلة وتهميش الإنسان ودوره، ومن هؤلاء: الفيلسوف صموئيل بيكيت، والمفكر أوجين يونسكو .

 كما ظهرت مدرسة خصوصاً، تتلخص رؤاها في الاحتكام إلى نهج العبثية في الأدب، حيث رأى أنصارها ان عدة مبررات تسوغ ضرورة الأخذ بهذا النهج، ومنها: انعدام المعنى العميق والمضمون الرفيع للوجود الإنساني جراء الخواء الروحي الذي تعيشه المجتمعات، والتفكك الاجتماعي والعزلة بين الناس.

Email