قراءة في تجربة شاعر مُرهف طرز القصيدة برقة الغزل وقوة المعنى

نسمات شعرية في ظلال الماجدي ابن ظاهر

ت + ت - الحجم الطبيعي

يـقـول الـمـايـدي أبـيــات شـعــرٍ

طــرى بنيـانـهـا وافـــي الـتـمـامِ

مثايـلـهـا تــشــوق الـرامـسـيـن

إلـى مـن ظــال ظــول وازدحــامِ

يقول ابنُ ظاهر أبيات من الشعر «طرا بُنيانها»، أي أن بناءَ قصيدته جديد غير مسبوق, فالشيء الطارئُ والطريءُ هو الجديد، وهي أي قصيدته وافية البناء كاملة التمام، وأن «مثايلها» أي أبياتها تشوق «الرامسين» أي يتشوَّقُ لها المجتمعون على الأحاديث في الليل كلما «ظال» أي اجتمع «ظول» أي حشد وازدحم.

ثم قال:

سِقِيِّة و َظْم وارِدْها العِطين

ظماياها رِوَوا وِهْيِه حيامِ

تِفِزّ لْها قلوب الفاهمين

وخالي البال خالَطْه المنامِ

يصف ابن ظاهر قصيدتَهُ بأنها «سقيِّة وظم»، وكلمة وظم هنا أصلها «وضَمَ» كما يبدو لي، لأن العرب في الإمارات والجزيرة العربية، غالباً ماتقلب الضادَ ظاءً حسب اللهجة، وقوله «سقيِّة وظم»، أي أنها كالناقة المظلومة في السقيا، ودليل هذا المعنى قولُهُ آخرَ البيت ظماياها «رِوَوا»، أي أنَّ من جاء عليها ظامئا ارتوى بقيت «هي حيام»، أي عطشى، ومما يؤيد معنى «وظم» هنا أنها من الظلم ماجاء في «لسان العرب» في معنى كلمة «وضم»، حيث جاء واسْتَوْضَمْتُ الرجلَ إذا ظَلمتَه واسْتَضَمْتَه، وإشارة بن ظاهر هنا إلى الظلم، ثم يصف الماجدي قصيدتة واصفاً جميلاً آخرَ دالاً على روعتها، وهو أنها تستفز القلوب ولكنها ليست القلوب العادية الجاهلة، بل هي القلوب الفاهمة الواعية، وتلك إشارة قد لا تجدها إلا عند ابن ظاهر ولعل ابن ظاهر الذي يفخر بفهمه لا يريد جمهوراً أقل منه فهما وعقلا، وذلك مانفقده اليوم في كثير من متلقي الشعر:

ثم يقول:

إلى جابو التجار خزوف بَزْ

جلبت أجناسْ غالية المِسامِ

جواهر جُوْخ لاروم ٍخيار

رقوم ٍ دسملي ِ و حُمْر شامِ

يقول ابن ظاهر واصفاً شِعرَهُ بأنه إذا التجار جاؤوا بالغالي من «البَزّ» أي النسيج الغالي الرائع أتى هو بالغالي الأرقى، وهي القصيدة التي هي كالجواهر «الجوخ»، والجوخ نوع من المنسوج من الثياب غالبا مايكون من الصوف الغالي الأصيل، وقوله «رقوم دسلمي وحِمْر شام» أنواع من الثياب الفاخرة

تم قال:

تناعتـهـا الـزبــون لـهــا يـبــون

زمــان الـبـدو يـنـوون المـشـام

ثم يصف إقبال الناس عليه، وخَصّ البدو الذين أتو من البادية يشترون لاشي إلا تخلصاً من وصف شعره إلى وصف من يحب التي هي من البدو، وفي ذلك تصوير رائع يبرز مهارة ابن ظاهر في التصوير دلالة على سعة مخيلته، وقدرته على التصوير الموجز الذي يصلح أن يكون فيلماً سينمائياً ولك من هذه الأبيات الخمسة أن تصنع أحداث مشهد سينمائي رائع لبدو حطوا رحالهم في سوق من أسواق العرب القديمة، وتركوا فتياتهم يجلن فيه ينتقين أجمل الثياب والعطور، وهم يزمعون الرحيل، ثم ما لبث أن تنادى القوم الرحيل الرحيل، فإذا بالهوادج تحمل عليه المها العربية ومن بينها من أحب ابن ظاهر، ولك أن تشهده واقفا يطيل النظر ويرسله إلى تلك الحمول المرتحلة حيث قال:

وَقفوا مـنـتـويــن مـجـنـبـيــن

تــــوارى دونــهــم لال الـكــتــام

خفاني الشـوق خالفـت الكفـوف

وعانق صبعي الأوسـط بهامـي

ومـَــرّوا كالسـفـيـن الـعـابــرات

ترس في شرعهن شرتـا الاولام

علـى هيـن يحـوز بـفـوز زيــن

صموت الحجـل معلـول الوشـام

ربــــا بــــرّ أغــــرّ الـوجـنـتـيـن

مكن في الخبا مـن حـول عـام

وإن شئت أن تعرفَ صورة محبوبته من أبياته فهي فتاة بدوية مليئة العود «صموت الحجل»، لها وشم جميل ربما في ذقنها أو تحت شفتيها، كما تفعل بعض نساء البدو العرب إلى الآن، وهي رشيقة غير بدينة، «ربــــا بــــرّ أغــــرّ الـوجـنـتـيـن» كما وصفها، اي رأيت في البراري بين المها، فكانت مثلها رشاقة وخفة، وهي إلى ذلك غراء الوجنتين أي بيضاء، ثم هناك نقلة اخرى الى ذكر وصفات الناقل الخالد في ذاكرة العربي جمل الصحراء، الذي أدرك ابن ظاهر انه سفينة الصحراء فسمى القافلة بالسفين العابرة فقال:

ومـــروا كالسـفـيـن الـعـابــرات

ترس في شرعهن شرتـا لـولام

وقول ابن ظاهر هنا سفين غاية في الفصاحة، وفي إشارة على معرفة هذا الرجل بالعربية الفصحى فكلمة سفين؛ أولاً تذكرك بقول طرفة بن العبد في معلقته:

وكأن حدوج المالكية غدوة

خلايا سفين بالنواصف من دد

عدَوْلِيَّة أو من سفين ابن يامن

يجور بها الملاح طورا ويهتدي

أليس ذلك حرياً بأن نعتقد بأن ابن ظاهر مطلع اطلاعاً جيداً على شعر العرب القديم أو على شعر أبي الطيب، حيث قال:

فَتَلَ الحِبالَ مِنَ الغَدائِرِ فوْقَهُ

وَبَنى السّفينَ لَهُ منَ الصّلْبانِ

تأتي بما سَبَتِ الخُيُولُ كأنّهَا

تحتَ الحِسانِ مَرَابضُ الغِزْلانِ

فكلمة سفين جمعا للسفن ليس لها وجود في عامية أهل الإمارات كما أعرف، فهي فصيحة صرفة، يدلك على ذلك ماجاء في «لسان العرب»؛ سميت السفينة سفينة، لأَنها تَسْفِنُ على وجه الأَرض أَي تَرزَق بها، قال ابن دريد: سفينة فعيلة بمعنى فاعلة كأَنها تَسْفِنُ الماء أَي تَقْشِره، والجمع سَفائن وسُفُن وسَفِين؛ قال عمرو ابن كلثوم:

مَلأْنا البَرَّ حتى ضاقَ عَنَّا

ومَوْجُ البحر نَمْلَؤُه سَفينا

وقال ابن ظاهر

يِـدَنّـا لـــه مـــن اقـفــار الـفــلاة

عْبيـْهِـيِّـن نـبــا مــنــه الـسـنــام ِ

عــِبِـنٍّ مـســتــدن الـمـنـكـبـيـن

صـبـوغٍ مــن ذ فـاريـه الـزهـام ِ

يصفـُّون الرقـوم و هــو جِـثـومْ

وإلــى مــن لِـفْـز للـدّايـات قــام ِ

تناحيـه القِـروف و هـو زِفـوف

فلومـا الخـوف ما انتسـع الـخـزام ِ

إلــى مِـنـِّه حــدا الـحـادي قِـفــاه

تـيـلّلْ مِــثـْـل مــذيــار الـنــعــام ِ

إنه يصف ذلك الجمل المُنيف، الذي ركبته محبوبتُهُ مرتحلةً بجميل الصفات، التي من أجملها وصفه لها بأنه كالنعامة سرعةً، كلما حدا الحادي خلفه، وفي ذلك إشارة أيضاً الى معرفة ابن ظاهر بالشعر العربي، ويظهر ذلك في تشبيهه للجمل بالنعام الخائف «المذيار»، بقول الحارث بن عباد بن قيس بن ثعلبة البكري، وهو من شعراء العصرالجاهلي توفي سنة 74 ق.هـ ـ 550 م، كما أنه من حكماء العرب وشجعانها، انتهت إليه إمرة بني ضُبيعة، وهو شاب وفي أيامه كانت حرب البسوس فاعتزل القتال مع قبائل من بكر، ثم من أهل العراق، وهو أحد فحول شعراء الطبقة الثانية، وإن المهلهل قتل ولداً له اسمه مُجير، فثار الحارث ونادى بالحرب وارتجل قصيدته المشهورة التي منها:

قَـرِّبـا مَربَـطَ النَّعـامَـةِ مِنِّـي

لَيسَ قَولِـي يـرادُ لَكِـن فعالِـي

قَـرِّبـا مَربَـطَ النَّعـامَـةِ مِنِّـي

جَـدَّ نَـوحُ النِّسـاءِ بِالإِعـوالِ

قَـرِّبـا مَربَـطَ النَّعـامَـةِ مِنِّـي

شَابَ رَأسِي وَأَنكَرَتنِـي القَوالِـي

قَـرِّبـا مَربَـطَ النَّعـامَـةِ مِنِّـي

لِلـسُّـرَى وَالـغُـدُوِّ وَالآصَـالِ

هذا وكان ذلك بعض من أفياء شعر ابن ظاهر وكفى.

Email