دينزل واشنطن يصارع الإدمان في «فلايت»

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ ولادة السينما خرج إلينا نوع من الأفلام، ترك أثراً عميقاً في أنفس البشر سواء كان ذلك الأثر إيجابياً أو سلبياً، ذلك النوع نجح في تكوين صنف له تحول إلى تيار مستقل، وسمي أفلام دراسة سلوك الشخصية البشرية أو. Character study films،

تمكنت هذه النوعية من الأفلام من الرسوخ في عقول البشر لسبب جوهري هو أنها عن الإنسان نفسه من ناحية رصد حياته وسلوكه وعاداته ومشاعره وأفكاره وكيف يؤثر في بيئته ويتأثر بها، فالإنسان في نهاية المطاف هو الكائن الوحيد الذي يدرس نفسه.

الأفلام المدرجة تحت هذه الخانة كثيرة جداً، لكن من خلال عملية بحث طويلة وقع الاختيار على فيلم Flight أو (رحلة طيران) نظراً للأداء المتميز والمثالي للنجم المخضرم دينزل واشنطن من جهة، ولأن الشخصية المراد دراستها هنا موجودة في كل المجتمعات من جهة أخرى، وهي شخصية مدمن الكحول والمخدرات.

من أكثر النقاط إثارة للاهتمام في الفيلم هي أن شخصيته ليست عادية، فنحن لا نشاهد فرداً مدمناً من عصابة شوارع أو عائلة بل المدمن لدينا رجل مثقف ومتعلم وذكي نال أعلى الشهادات وهو طيار مؤتمن على أرواح مئات البشر، الذين يسافرون معه فكيف سيكون سلوك طيار مثلاً لو كان مدمناً، هذا أخطر جانب يناقشه فيلم فلايت.

الفيلم يقدم لنا الشخصية من خلال المشهد الأول فالغرض من الفيلم الشخصية وليس القصة وهنا مربط الفرس، نرى ويليام ويتيكر (دينزل واشنطن) في غرفة فندقية يستيقظ من نومه بصعوبة بالغة، نظراً لحالة الثمالة التي وصل إليها في الليلة السابقة ليقود رحلة الصباح من أورلاندو إلى أتلانتا، وقبل الخروج من الغرفة نراه يستفيق من حالته باستنشاق الكوكايين.

يقلع الكابتن ويتيكر بطائرة من طرازJR 88 (طراز وهمي استحدث من أجل الفيلم لتجنب التشهير بشركات الطيران)، وتتعرض الطائرة لمطبات هوائية عنيفة إلا أن براعة ويتيكر تعبر بالطائرة إلى فوق الغيوم، وبينما يتولى مساعده القيادة، يتسلل ويتيكر من القمرة لتعاطي مشروبات كحولية سراً في مكان تحضير المأكولات قبل أن يعود للقمرة ويعصب عينيه لينام، وهنا نفهم أنه في الليلة السابقة لم ينل قسطاً كافياً من الراحة.

ثم تصاب الطائرة بعطل ميكانيكي وبدأت سقوطاً حراً لكن ويتيكر يصحو ويمسك بزمام الأمور، ويستخدم مناورة طيران جريئة وهي قلب الطائرة رأساً على عقب لتجنب سقوطها في مشهد كلاسيكي آسر سيخلد في الذاكرة السينمائية.

مشهد تحليق الطائرة مقلوبة أثار كثيراً من الجدل من ناحية مصداقيته، فطيار عمل مع مخرج الفيلم روبرت زيميكيس مستشاراً قال: إن ذلك ممكن، وطيار آخر يدعى ستيف ساتر صرح لمجلة متخصصة في مجال الطيران أن المشهد خيالي برمته، لكنه أصلاً مستلهم من محاولة تحليق بالمقلوب حقيقية حدثت عام 2000 لطائرة شركة ألاسكا إير فلايت لإيقاف سقوطها إلا أن العملية باءت بالفشل وتحطمت الطائرة في المحيط الهادي.

عودة لمشهد قلب الطائرة الذي ينهيه الكابتن ويتيكر بالهبوط في مسطح أخضر، وبالتالي إنقاذ حياة معظم الركاب باستثناء 6 ركاب منهم مضيفة ومن هنا يبدأ الفيلم وكذلك ارتباط المشاهد بالشخصية. يلتقي ويتيكر ممثلين من نقابة الطيارين ويبلغوه أن تحطم الطائرة ليس بسبب خطأ الأخير إنما خلل ميكانيكي وهذا ما يضع المشاهد أمام معضلة تعاطفه مع الطيار، فالمشاهد يعلم أن ويتيكر كان يطير في حالة سكر، لكنه أنقذ أرواح معظم الركاب والخلل بالفعل لم يكن خطأه.

بعد خروجه من المستشفى وتعامل نقابة الطيارين معه بطلاً منقذاً يتجه ويتيكر إلى مزرعة والده، حيث يتخلص من كل زجاجات المشروبات الكحولية وأيضاً المخدرات التي يخبئها هناك، وهو ما يعني أن الحادث كان بمثابة الصدمة ،التي جعلته يستفيق من السكر الطويل، وقد أدرك أن مهنته التي يعشقها (الطيران)، التي تمنحه معنى للحياة قد تتعرض للخطر لو تم اكتشاف إسرافه في الشرب أثناء تأدية العمل.

الإجابة تأتي بسرعة في المشهد التالي عندما يبلغ محامي النقابة ويتيكر أن عينة من دمه سحبت بعد الحادث واكتشف أن نسبة الكحول عالية فيه، هنا يتغير سلوك ويتيكر خصوصاً عندما يعلم أنه يواجه تهماً بالقتل غير العمد، ما سيتسبب بالتأكيد في فقدانه وظيفته، وبالتالي ينتكس ويعود للشرب.

 إذاً، من التصرفات المتكررة للشخصية الرئيسة نفهم أن الفيلم برمته عن موضوع واحد هو الإدمان وكيف تدمر هذه المشكلة الفرد (ويتيكر) والمجتمع (عائلته وعدم احترام ابنه له) والآثار المدمرة على وظيفته ومستقبله بالرغم أن الفيلم يبلغ المشاهد في أكثر من مشهد أن الكابتن ويتيكر هو الوحيد الذي تمكن من عمل هذه المناورة، وبالتالي قلل من آثار الكارثة، لكن حتى هذه الصورة البطولية لا تصمد أمام الإدمان.

ويتيكر شخص مكابر لا يعترف بمشكلة إدمانه، ولا يرى ما هو أبعد من أنفه كما يقال، فنراه يخرج من جلسة علاج مدمنين فور سماعه سؤالاً: من لديه مشكلة إدمان؟ ما يشير إلى عدم اعترافه بالمشكلة. المشهد الآخر هو محاولة ويتيكر تغيير موضوع إدمانه وتغطيته كلما طرح عليه بتحويل الانتباه إلى ذكائه في التعامل مع سقوط الطائرة وإنقاذه لأرواح غالبية المسافرين.

الفيلم كذلك يعرض علينا شخصيتين متباينتين هما ويتيكر ونيكول (كيلي رايلي) التي يلتقي بها في المستشفى، حيث إن الأخيرة أيضاً مدمنة لكنها تقرر أن تسلك الطريق الآخر لتعود للاندماج في المجتمع، بينما ويتيكر يتصارع مع الإدمان في جولات مختلفة وينهزم في كل جولة بالرغم أنه تلقى كل أنواع المساعدة من نقابة الطيارين، وهذا يشير إلى أن الإدمان كارثة تزيل الحدود الاجتماعية والاقتصادية بين طبقات المجتمع، فلم يكن هناك تمييز بين حجم شخصية الكابتن ويتيكر كونه متعلماً وذكياً ومثقفاً وبين شخصية نيكول الفتاة البسيطة.

هناك مشاهد في الفيلم تحوي صراعاً نفسياً بين ويتيكر وإدمانه تبلغ ذروتها عند نهاية الفيلم (مشهد الفندق) الذي عالجه زيميكس بأسلوب في منتهى البراعة بإدخال المشاهد في نفسية ويتيكر وجعله جزءاً من الصراع، فالمشاهد يتعاطف تماماً مع ويتيكر آملاً أن يخرج من مشكلة إدمانه، لأنه طيار بارع لا يستحق قطاع الطيران أن يفقده.

ونهاية كل جولة صراع تنتهي بإدخاله في مجموعة إجراءات قانونية تنقذه بصورة مؤقتة فقط، وكأن الفيلم يقول إن ويتيكر ينتصر ظاهريا فقط لكن المشكلة ما زالت عميقة جداً في الباطن! نضيف إلى ذلك أن صنع المشهد بأكمله تم بالكاميرا وموسيقى الخلفية فقط دون كلمة واحدة وأجمل لقطة فيه التركيز على زجاجة المشروب.

قد يرى البعض أن فيلم «فلايت» غير واقعي ويتجاهل الكثير من الهفوات الموجودة في النص كالاختبار العشوائي للطيارين للتأكد من خلو أجسامهم من أي مواد مؤثرة على العقل، لكن للسينما استثناءات لأن الذي يجعل الفيلم تحفة سينمائية آسرة ليس أصالته ولا مدى واقعيته وإنما العبرة المستخلصة التي يوجهها للمشاهد.

وهي أن الإدمان كارثة مدمرة في كل المجتمعات، وبغض النظر عن المركز الاجتماعي للفرد وعلاقاته، فلا شيء ينقذ الإنسان من إدمانه سوى عزيمته وإصراره والرغبة الداخلية الصادقة للتخلص من هذه الآفة، وضرب لنا أجمل مثال في ويتيكر الضعيف المدعوم من نقابة الطيارين له، ونيكول القوية دون وجود من يدعمها.

Email