تصنع من خيوط صوف الغنم الناعم ويستلهم منها مصممو الأزياء حديثاً

«شاشية» تونس صناعة عريقة مهددة بالاندثار

ت + ت - الحجم الطبيعي

تواجه صناعة الشاشيّة التونسية (طاقية رأس تقليدية مستديرة تصنع من الصوف) أوقاتا عصيبة. ويخشى المهتمّون بالصناعات التقليدية في تونس من اندثارها جرّاء التقلّص الكبير لعدد حرفييها وعزوف التونسيين عن ارتدائها بعد أن كانت طيلة قرون لا تفارق رؤوسهم وتعدّ الشاشيّة من المكوّنات الرئيسية للباس التقليدي التونسي الخاص بالرجال، الذي يتألّف أيضا من الجبّة (جلباب) و«البرنوس» (معطف من صوف الغنم) و«البلغة» (خفّان مصنوعان من الجلد).وتعتبر الجهات الرسمية في تونس الشاشيّة إرثا ثقافيا وتصنّفها ضمن الرموز الدالة على الهوية الوطنيّة التي يجب المحافظة عليها باعتبارها «خصوصية تونسية صرفة».

تطور تاريخي

قال الباحث الجامعي التونسي حسام الدين شاشيّة (ولقبه بالصدفة شاشية) إن كلمة شاشية مشتقّة من «شاش» (اسم مدينة في خراسان) وأن الجنود الخراسانيين الذين شاركوا مع القائد الإسلامي عقبة بن نافع في فتح مدينة القيروان التونسية سنة 076 ميلادية أدخلوا صناعة الشاشية إلى القيروان فصارت تعرف باسم «الشاشية القيروانية».

وأضاف الباحث أن ما عرفته تونس في وقت لاحق من حروب و مجاعات دفع حرفيي و معلمي هذه الصنعة إلى مغادرة البلاد باتجاه المغرب و الأندلُس ناقلين معهم صناعة الشاشية التي ازدهرت بمدن فاس (المغرب) وغرناطة وقرطبة وطليطلة (إسبانيا).

وأوضّح أن «الموريسكيين» الأندلسيين (وهم مسلمو إسبانيا الذين طردهم الملك الاسبان فيليب الثالث سنة 9061) لجأوا بالآلاف إلى المغرب والجزائر وتونس واستوطنوها وأحيوا صناعة الشاشية في تونس التي لجأوا إليها بداية القرن السابع عشروأفاد أن الأندلسيين سيطروا «سيطرة مطلقة على سوق الشواشين في تونس في منتصف القرن 81» وأن دراسات لغويّة أظهرت أن نحو 64 كلمة من المصطلحات التي يتم تداولها اليوم في صناعة الشاشية بتونس هي من أصل إسباني.

مهنة ولجنة حكماء

تعدّ سوق «الشوّاشين» (صنّاع الشاشية) الواقعة بمدينة تونس العتيقة، قرب جامع الزيتونة المعمور، المقر الرئيسي والوحيد لحرفيي الشاشية في تونس.

والسوق عبارة عن زقاق طويل ومسقّف تنتصب على جانبيه دكاكين لصناعة وعرض الشاشية.

وينتج «الشوّاشون» نوعين اثنين من الشّاشية: الأولى حمراء قرمزيّة خاصة بالتونسيين،والثانية سوداء معدّة للتصدير نحو ليبيا ودول إفريقية (جنوب الصحراء) يلبس سكانها وقادتها هذا النوع من القبّعات ويجهلون أن مصدرها تونس.

وينتخب الشواشون كل 5 سنوات، على غرار أصحاب الصنائع التقليدية الأخرى، «أمينا» يسهر على -آداب المهنة وأخلاقياتها ويعمل على تسوية النزاعات فيما بين المهنيين من ناحية وبين الحرفيين -والزبائن من ناحية أخرى.

وانتخب حرفيو الشاشية مطلع العام الجاري عبد الرزاق كاهية (76 عاما) أمينا جديدا لسوقهم.

وتصنع الشاشية من خيوط صوف الغنم الناعم التي يتّم استيرادها من فرنسا.

ويتطلب صناعة الشاشية الواحدة ما بين 001 و051 جراما من الصوف حسب حجم الشاشية (صغيرة، متوسطة أو كبيرة).

ولا يتم استعمال صوف الأغنام التونسية لأنه ليس بالنّعومة المطلوبة في هذه الحرفة نتيجة حرارة الطقس والعوامل المناخية التي تجعل صوف الأغنام مجعّدا وغير صالح لصناعة الشاشية.ولا يخفي كاهية الذي يمارس المهنة منذ أكثر من 05 عاما قلقه الكبير بشأن الوضع المتردّي الذي آلت إليه صناعة الشاشية في تونس وخشيته من أن يأتي يوم تندثر فيه هذه الصناعة بشكل نهائي.

وقال في هذا السياق:»سوق الشواشين لا تعدّ اليوم سوى 52 معلّما لصناعة الشاشية مقابل 084 سنة 7491» ملاحظا أنه «لولا تصدير الشاشية السوداء إلى الدول الإفريقية لما بقي في السوق معلّم واحد».

ذروة الازدهار

ظلّت الشاشية طيلة عدة قرون لباسا ذكوريا أساسيا في تونس يتساوى في ارتدائه الأطفال والشبان والكهول والشيوخ أغنياء وفقراء. وتحمي الشاشية الرأس من أشعة الشمس صيفا ومن البرد ومياه الأمطار شتاء.

وكان التونسي لا ينزع شاشيته إلا عند الخلود إلى النوم بل كان من العيب الكبير أن يشاهد خارج المنزل «عاري الرأس» دون الشاشية.

واعتبرت الشاشية من المقاييس الاجتماعية للرجولة إذ ما إن يبلغ الطفل سن السابعة يسارع أهله بإلباسه الشاشية تفاؤلاً بدخوله سن «الرجولة».

وفي حفلات الختان (الطهور) يرتدي كل طفل اللباس التقليدي التونسي ويزيّن رأسه بشاشية حمراء مطرّزة ويمتطي حصانا يطوف به في الحي الذي يقطنه أو الأحياء المجاورة احتفالا بهذه المناسبة.ولا يزال كثير من التونسيين يحافظون على هذا التقليد إلى اليوم

وعندما تتقدّم الشاشية في العمر يقصها تلاميذ المدارس والكتاتيب ويستعملونها لإزالة الطباشير (الطبشور) من السبّورة أو الألواح التي يكتبون عليها.

وكان كل موظفي القطاع العام في تونس، قبل استقلال البلاد من الاستعمار الفرنسي، يرتدون الشاشية.

وتظهر صور بمتاحف تونسية عددا من الملوك الذين حكموا البلاد قديما، في أزياء رسمية وعسكرية وعلى رؤوسهم شاشية حمراء مرصعة بالذهب أو المجوهرات.

وخلافا لما كان متعارفا عليه عند الأجيال السابقة، تغيّرت نظرة الشبان إلى الشاشية فأصبحوا يعتبرونها «موضة قديمة» عفا عليها الزمن وعلامة على الفكر المحافظ والتقليدي غير المواكب للعصر ودليلا على التقدّم في السن.

ويفضل شباب تونس اليوم ارتداء قبعات تحمل أسماء ماركات عالمية مقلّدة ورخيصة الثمن (الكاسكيت الرياضية، والشابو، والبونيه، والبيريّة..) يعتبرونها «أكثر شبابية ومواكبة للموضة».

وحتى من حافظ على ارتداء الشاشية في بعض الأرياف فقد تخلّى عن التقليدية لصالح المصنّعة لرخص ثمنها.

و يتراوح سعر الشاشية التقليدية ما بين 5 و51 دولارا. فيما لا يتجاوز سعر الشاشية المصنعة 3 دولارات.

ويعود الفارق في السعر إلى غلاء كلفة المواد المستعملة في إنتاج الشاشية التقليدية وخاصة خيوط الصوف المستوردة بالعملة الصعبة من فرنسا

ويصل سعر الكيلوجرام الواحد من الصوف المستورد إلى نحو 51 يورو. وقد أثقل استيراد الصوف حرفيي الشاشية بالديون. كما يعود فارق السعر أيضا إلى ما تمرّ به صناعة الشاشية التقليدية من مراحل يدوية تتطلب وقتا طويلا وجهدا بدنيا كبيرا لا ينسجم مع مردودها المادي الضعيف. وقد أدت قلة العائد المادي قياسا بالوقت والجهد اللازمين لإنجازها إلى تناقص حرفييها سنة بعد أخرى.

وأدت مختلف هذه الصعوبات إلى تسجيل تراجع حاد في صناعة الشاشية وتجارتها وابتعاد الشباب عن امتهانها ما أضعف التشبث بها كخصوصية تونسية فباتت مهددة بالزوال.

ولم تعد الشاشية في هذه الفترة تقتصر على اللونين الأحمر و الأسود بل ظهرت ألوان جديدة زاهية (زرقاء وصفراء وخضراء...). كما وقع تصميم شاشية أنثويّة مزركشة ترتديها النساء في الأفراح والمناسبات.

وقد نجحت هذه المحاولات في إعادة شيء من الحيوية لتجارتهم لكن الأمور عادت إلى ما كانت عليه بعد وقت غير طويل جراء تخلّي الشباب عن هذا الشكل الجديد من الشاشية.

وقد توقّف غالبية الحرفيين عن صناعة الشاشية الجديدة وعادت المهنة لتتخبط في أزمتها التي لم تخرج منها إلى اليوم.

يذكر أن تونس تحتفل سنويا بـ «اليوم الوطني للباس التقليدي» الذي يوافق يوم 61 مارس ويهدف إلى التعريف باللباس التونسي الأصيل ومد جذوره إلى الأجيال القادمة.

تونس ( د ب أ) - الحواس الخمس

Email