عبده داغر: الغناء العشوائي دمر الوجدان الشرقي

عبده داغر: الغناء العشوائي دمر الوجدان الشرقي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

على هذه الأرض سبعة أحرف للموسيقى، لا تختلف من مكان إلى آخر، إلا إذا اختلفت الأذن التي تسمع، وهذه الموسيقى تحمل على أعصابها أوتارًا، وسيد هذه الآلات الوترية هو «الكمان»، وعازفه خير من يتجلى إلى أسرار النفس في خفة من الروح..

«عبده داغر» أحد الكبار في عالم آلة الكمان، كان يهبُّ من نومه ليسجل ما أملاه الحلم عليه، إنه عازف من أُمة القرآن، تتلبسه أرواح الموسيقيين الكبار، يحاورنا بهدوء في منزله بحي حدائق القبة بالقاهرة، وهو يلامس أوتار الكمان.حول ارتباطه بالكمان يقول داغر: في بلدتي طنطا بدلتا مصر كان أبي يحكي لي عن هذه الآلة، وكنت قد تخرجت في مدرسة القرآن الكريم بعد حفظي له على أيدي كبار المشايخ، فشعرت أن هناك ارتباطًا ما بين الكمان والطقس الديني، وتعلمت إيقاع الكلام واللحن من الروح القرآنية.وكان والدي لديه معهد للموسيقى في طنطا، وكان يحاول نشر الموسيقى في بلاد أخرى في دلتا النيل، ووجدتني منجذبًا إلى الكمان؛ أنكب عليه وحدي، وأتعلمه وحدي، كما لو كنا في تحاور سري لا يعلمه أحد سواي والكمان.

وعندما وصل عمري 12 عامًا بحثت عن منهج أو طريقة خاصة أتبعها في عزفي على الآلة، لكنني لم أجد إلا هذه الروح الدينية التي تتسق مع الكمان، أعتقد بأنني أعزف من منطقة قرآنية الروح؛ لذا تبدو لحظات التجلي مع الكمان أكبر، خاصة بهذا الأسلوب.

منهج ديني

كيف كان حال الموسيقى قبل دخول الكمان إلى الفرق الموسيقية؟

كانت الموسيقى الموجودة في مصر موسيقات عسكرية، وفي العام 1920 كانت الموسيقى بلا عازف للكمان؛ لذلك كان الموسيقار عبدالوهاب يغني دون عازفين مصريين، وكانت فرقة «رضا» هي أملي في الحياة.

فتركت بلدتي بعدما عملت فترة مع العوالم والمشايخ و«الصيّيتة» في الموالد، وتعلّمت الكثير من المشايخ، وأعتقد بأن هذه الروح هي ما جعلت موسيقاي تفوح بالمنهج الديني؛ إلا أنني حوّلت الروح الدينية إلى تحاور بالآلات، فكل من عبدالوهاب، أم كلثوم، السنباطي، بدأوا عملهم بمنهج ديني، وعندما أتيت إلى القاهرة، عملت في مسرح البالون، كنت بين كل عمل والآخر أدندن في الاستراحات، وكان الموسيقيون عبدالحليم علي، إبراهيم حجّاج، حسين جنيد، يتابعونني في خفية، فسألوني لماذا أخفي هذه الموسيقى؟، فاقترحوا عليَّ أن أبدأ في تعليم وتربية أجيال للعزف على الكمان، ويتبعون منهج الموسيقى العربية لتخرج إلى النور، وبالفعل بدأت في تربية أجيال منذ العام 1963 وحتى هذه اللحظة.

كيف أسهمت في تأسيس فرقة للموسيقى العربية؟

بدأ ذلك أثناء وجودي في مسرح البالون الذي أنشأه الاتحاد السوفيتي، وحينذاك تحدثت في الإذاعة بأن لدينا تراثًا كبيرًا، وإن لم نطوّر هذا التراث سيصبح ملكًا لإسرائيل، واستمع ثروت عكاشة، وزير ثقافة مصر آنذاك، إلى حديثي.

وبالفعل تم إنشاء فرقة للموسيقى العربية بعد 1967، وأصبح مقرها هو معهد الموسيقى العربية، الذي كان منارة لتعليم الموسيقى، لكنه تحوّل إلى متحف، وتم هدم حلم تعلّم الموسيقى به، وقد كان يشرف عليه ثروت عكاشة بنفسه، واستمرت الفرقة.

لكن بعد ذلك لم أجد من يهتم بالموسيقى العربية، فحين تولت «رتيبة الحفني» المعهد قضت على الموسيقى العربية؛ لأن تعليمها كان أوروبيًا، لا تعرف أي شيء عن الموسيقى العربية.

وعندما عادت إلى مصر نصحها والدها محمد الحفناوي أن تغني «أوروبي»، ففعلت، لكنها لم تجد إقبالاً من أحد، فأصبح بينها وبين الموسيقى العربية عداء، فأصبحت كل حفلات الأوبرا وعزفها أوروبيًا.

من الموسيقي الذي دفع بك إلى الأمام؟

كان الموسيقار عبدالحليم نويرة الذي أثرى الموسيقى في مصر يشجعني على البقاء في القاهرة، لكن في هذه الظروف تنوعت الفرق، وأصابها الشتات، فأصبحت لا تقدم موسيقى عربية، بل منوعات، وأصبحت فرقة «أم كلثوم» تضارب فرقة «عبدالحليم نويرة».

وكأنها حرب، وبموت عبدالحليم نويرة انتهى عبده داغر في مصر، ولم يبق غير أتباع رتيبة الحفني، ومنهم سليم سحاب، وبدأت الأمور تتدهور؛ فقررت ألمانيا أن تتبنّى عبده داغر، تعرّف العالم بالموسيقى العربية، وكان ذلك العام 1992؛ حيث بدأت عمل حفلات عن العزف العربي والموسيقى العربية في ألمانيا، فرنسا، بلجيكا.

تكريم غربي

هل أخذت حقك من النجومية؟

عندما كنت في سويسرا بأكاديمية «زيورخ» أقاموا لي احتفالية بعيد ميلادي ال70، كانت أول مرة في حياتي أحتفل بعيد ميلادي، وكانت مفاجأة، وللأسف لم أجد ذلك في وطني، بل وجدت التكريم في الغرب، فقد أصبحت الموسيقى في وطني أوروبية أو «رقص باليه».

كما أن المسؤولين عن الموسيقى في غيبوبة تامة، ولديهم عقدة الخواجة، لكن أعتقد في الغرب بأن حقي من النجومية أحصل عليه بشكل لا أتخيله، فجامعة «زيورخ» أعطتني دبلومًا في الموسيقى العربية.

بالإضافة إلى تكريمي من جامعة «جنيف»؛ حيث منحتني الدكتواره الفخرية، كما أقامت ألمانيا لي تمثالا بحديقة «الخالدين» بجوار بتهوفن وموتسارت.

لماذا رفضت التكريم في مهرجان الموسيقى العربية في القاهرة؟

لأنه جاء متأخرًا، فمن العيب أن ألاقي كل هذا التكريم من دول العالم، ولا أجده في وطني، فلماذا جاء هذا التكريم متأخرًا، على الرغم من أنه يجب تكريمي كل عام، كما أن ما يقدم في المهرجان لا يعجبني، ولا يُسمى موسيقى عربية؛ لأنه «نشاز».

وذلك بسبب عدم وجود مسؤولين حقيقيين عن موسيقانا، ولا أماكن تدرس فيها الموسيقى العربية بمنهجها وقواعدها، فكل شيء نأخذه من الغرب ونقلده بطريقة خاطئة، وأتصور أن من يقومون على هذا المهرجان في الأساس يكرهون الموسيقى العربية، ويتمنون وأدها.

ما واجب عازف الكمان تجاه آلته الموسيقية؟

على عازفينا أن يتعلموا الاختلاف بين أوتار آلة الكمان الشرقية، والتي تختلف عن المستعملة في الموسيقى الأوروبية، كذلك يجب التفريق بين المقامات المستعملة على أوتارها، ومن المفترض أن من يتعامل مع آلة الكمان أن يعرف كل شيء عنها، من أول صناعتها، ومكوناتها من «المعدن، الشعر، الرأس، الرقبة، الظهر، الفرس».

وجميعها تصنع من خشب «الاسفندان»، والغطاء من خشب «الراتينج»، ويصنع «المشط، اللسان، الأنف، المفاتيح» من خشب «الأبنوس»، كل هذا تعلمته نتيجة عشقي للآلة، ووجودي مع فنانين كبار أمثال «أم كلثوم، عبدالوهاب، عبدالحليم».

لكنني لم أشارك معهم لفترات طويلة لانشغالي الدائم بإنشاء معهد للموسيقى العربية، وتحضير منهج مصري للموسيقى، أما التلحين الذي نصحني به عبدالوهاب؛ فكان هناك من يقوم به غيري، فأنا أتألم حاليًا لحال الموسيقى؛ فلم يعد هناك مؤلفون.

فإن طغيان الغناء العشوائي يعد تدميرًا للوجدان الشرقي، ولا مكان أيضًا للموسيقى وسط هذا الصخب، كما لم تعد هناك مجهودات موسيقية لوزارة الثقافة، التي أصبحت تقوم بدور المقاولات الثقافية الفارغة.

نبذة تاريخية

ـ آلة الكمان أصلها عربي، وكانت تسمى «الربابة»، وهي آلة وترية تعزف بالقوس، وكانت في بدايتها بوتر واحد، تطوّر إلى أربعة أوتار، وتنوعت أشكال الآلة، أحجامها، ثم انتقلت بعد ذلك إلى أوروبا عن طريق الأندلس.

حيث أخذت مكانة عالية في مجال الموسيقى الدينية في أوروبا، ثم مرّت هذه الآلة بمراحل كثيرة غيّرت من شكلها، فظهرت بعد ذلك عائلة ضخمة منها تتألف من «الفيولا، التشيللو، الكونترباص»، وكانت الموسيقات الشعبية والفنون المحلية من استخدامات الربابة قديمًا.

ـ تغيّرت «الكمان» مع تطور الصناعة، خاصة في فرنسا وإيطاليا، أدى ذلك العام 1350 لظهور آلة الكمان في إيطاليا بشكلها الحالي، وأصبحت سيدة الآلات، ولا يشاركها في هذه السيادة غير «البيانو»، لكنه لم يستطع أن يزحزح الكمان عن مكانته في الأوركسترا؛ نظرًا لأن كلا منهما له طبيعة مختلفة عن الآخر.

إضاءة

ـ عبده داغر ولد في مدينة طنطا العام 1936، تعلّم الموسيقى على يد والده، الذي كان يحترف الموسيقى، ولديه معهد لتعليمها، ومصنع للآلات الموسيقية الشرقية، تعلّم العود أولاً، لكن رؤيته تغيّرت بعد مشاهدة حفل موسيقي لعازف كمان كلاسيكي، فاتجه إلى الكمان منذ وقت مبكر في حياته.

- طوّر داغر القوالب مثل «اللونجا»، «السماعي»، وأنشأ قوالب جديدة مثل «النيل، الكورد»، وأدخل الموسيقى الدينية مثل «مقدمة المشربية، الأندلس»، وكلها من الموسيقى التعبيرية.

- يقيم حفلاته بالعديد من الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، بلجيكا، سويسرا، من مقطوعاته الموسيقية «الهدهد، بيت الحنّة، موسيقى الليلة المحمدية».

Email