نازك الملائكة: الشعر يغسل الأدران والوعي التام لا ينتج شعراً ذا قيمة

نازك الملائكة: الشعر يغسل الأدران والوعي التام لا ينتج شعراً ذا قيمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

من لا يعرف الشاعرة نازك الملائكة عن قرب، لا يمكن أن يدرك حتى النهاية إلى أي مدى ينطبق شعرها على حياتها وتجربتها، وكم تنطبق الأسماء على مسمياتها أحياناً.

شاءت الصدف والأقدار أن تكون أستاذتي في مادة الأدب العربي المعاصر في جامعة بغداد ـ كلية التربية الملغاة أواخر الستينات. على أنني لا أنوي في هذه العجالة أن أتحدث عن حياتها الغنية كاملة، فهذا ليس من دواعي هذا النص، إنما بودي التنويه إلى مثابرتها وصفائها الذهني وشفافيتها المفرطة ورهافة سمعها الموسيقي ـ أحد أهم أعمدة الشعر. علينا أن نتذكر دور اللون والصمت والتأمل والحزن والضياع في شعرها.

حدثتنا ذات محاضرة، عن غفلة المرء عما قد يلحق الضرر به في يومه الذي يتراءى أنه طبيعي. فمثلاً، كيف يبدو لمس النقود والتعامل بها بريئاً وعادياً، إلا أنه قد يسبب في نقل العدوى ومنها الحساسية والأمراض الجلدية وما شابه. أنا، مثلاً، أضافت قائلة: أغسل يدي بعد كل مرة ألمس فيها النقود. لقد تسمّرتُ شخصياً بعد سماعي ملاحظتها الحياتية المذكورة، واستغربت منها تضييع وقتها ووقتنا بلا طائل. لكنني أدركتُ حماقتي، حينما سمعت جملتها الأخيرة: كل هذا الدرن بإمكان الشعر أن يغسله!

لا يمكنك إلا أن تنصت لها، لأنها وببساطة أستاذة الهمس والشفافية والرهبنة. صوتها رقيق، نظراتها شبه حالمة وساهمة، ذهنها متوقد وخيالها بلا حدود، لم تكن تؤمن بالكتابة الشعرية الواعية حتى النهاية، «لأن الوعي التام قلما ينتج شيئاً ذا قيمة»(مقدمتها للمجلد الثاني من ديوانها).

لم تكن تتحدث كثيراً عن نفسها وهذه من أجمل خصالها. لكنها كانت تتحدث عن ضرورة الشعر، وأهمية الحياة في إغناء التجربة الفنية ودور القراءة المتأنية والمزاج والاجتهاد الفردي في صياغة الشاعر وعالمه التولدي. كانت في أشعارها الأولى حتى منتصف الستينات، تكدح شعرياً، رغم تشاؤمها ورومانسيتها البينة، مصوبة هذا البيت ومراجعة تلك القصيدة، والدليل على ذلك، أن إحدى قصائدها ذات الطبيعة الرومانسية قد كتبت ثلاثَ مرات بشكل مغاير، في غضون عشرين عاماً، وعلى البحر الحادي عشر ـ الخفيف (فاعلاتن مستفع لنْ فاعلاتنْ فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن) والغريب في الأمر أنها اتبعت هذا الوزن في القصائد الطوال الثلاث.

كانت أجواؤها متشائمة وحزينة في الأولى فانفراج نفسي وقبسات من الأمل والفرح في الأخريين. ونظراً للاختلاف الذي حصل بمرور الوقت فيما بين القصائد قامت بنشرها كلها في الجزء الأول من ديوانها الصادر عن دار العودة في بيروت. متسلسلة هكذا: «مأساة الحياة» (1945 ـ 1946)، «أغنية الإنسان ـ 1» (1950) و«أغنية الإنسان ـ 2» (1956). إن إصرارها على تنقيح القصيدة الأولى أعطاها على مدى عشرين عاماً ثلاثة نصوص متباينة. كان الأحرى بها أن تكرس وقتها في مواصلة مسعاها التجديدي حتى النهاية.

لم تكن هذه القصائد بالنسبة لتطور الشعر الحديث تعني شيئاً، لكنها ذات قيمة من حيث المجهود والمثابرة والتجربة الشخصية، وعلاقتها هنا وهناك بأجواء مماثلة في الشعر الإنجليزي، خصوصاً لدى (جون كيتس) الذي سبقها في تجربة مماثلة باعتراف الشاعرة ذاتها.

هذه التجربة المضنية، قد ساعدتها قبل كل شيء على الابتعاد، ولو إلى حين، عن مواصلة كتابة المطولات الشعرية التي كانت تميل إليها في البداية، ودفعتها إلى بلورة آرائها حول طبيعة الشعر الجديد (شعر التفعيلة) أو كما أسمته خطأ «الشعر الحر»، الذي دعت إليه ودافعت عنه في مقدمتها لديوانها وفي كتابها الهام (قضايا الشعر المعاصر) (1962). لكنها أيضاً بمنظار الآتي، قد ضيقت من مساحة ثقلها التجديدي الذي كان من الممكن أن يذهب إلى أبعد مدى.

هل كان لموهبة نازك أن تمضي باتجاه التجديد بدون الاطلاع على تجارب الشعر العالمي الجديد آنذاك؟ للأفق المفتوح على الأدب العالمي والتفاعل معه بروح نقدية دور مهم حيوي في تجربة وآراء نازك الشعرية والنقدية. ألم تدْرس الأدبَ المقارن؟ كانت تقرأ بالإنجليزية بنهم. تكثفت مطالعاتها أكثر في الثلاثين سنة ونيف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أثناء دراستها في دار المعلمين العالية في بغداد، والأدب المقارن في الولايات المتحدة الأميركية، كما وأشيع عن كونها ملمة باللاتينية والفرنسية. لولا تلك الفترة لما وصلنا شعر نازك الملائكة بهذه الأهمية. إذن لكانت شاعرة عادية أسوة بالآخرين ممن علاهم الغبار.

رغم نزوعها نحو التجديد ودعوتها لتخليص الشعر العربي من التقليدية والماضوية، يعني من (الرقدة الطويلة التي جثمتْ على صدره طيلة القرون المنصرمة الماضية) (نازك الملائكة 1949)، إلا أنها أوحت لنا بأن قسطاً من الردة والتخاذل في مسعاها التجديدي قد تلبسها في الثلاثين سنة الأخيرة التي سبقت موتها، وكأنها انعكاس للردة الماضوية الناغلة في الجسد العربي منذ سنوات طويلة. وإلا فمباذا نفسر عودتها لكتابة الشعر العمودي الذي خرقت قواعده بنفسها؟ ألم تقلْ من قبل: بأن مزية شعر التفعيلة «أنها تحرر الشاعر من طغيان الشطرين»، و«أن الأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعاً، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقاً جديدة ».

في الحقيقة، كانت نازك تعتقد بأن مسعاها وزملائها هو بمثابة «تعديل» للخليل بن أحمد الفراهيدي، وليس «خروجاً» عنه. من هنا، يبدو لنا، أنها كانت في شعرها وأرائها النقدية وسلوكها تحاذر من المبالغة في التجديد ولا ترغب في رؤيته مُتفرعناً في الساحة كشكل أدبي فريد لما يزل غير مضمون. وهذا يعني أن سطوة التراث الشعري في أعماقها أعلى من مساعي الحاضر التجديدية.

هذا التصور وتأثير المحيط المحافظ عليها وشخصيتها الميالة إلى الترهب هو الذي أوقف مسعاها التحديثي ووضعها خلف السياب من حيث المواصلة والبحث عن الحلول التقنية والجمالية في شعرنا المعاصر. على أية حال، نحن إزاء حساسيتين ومجهودين شعريين مختلفين.

إن ما قدمته نازك لحركة الشعر العربي المعاصر، يجعلها، باعتقادنا، أكثر الشواعر حضوراً وتأثيراً في تاريخ الشعر العربي الحديث برمته. إن حالة التردد وعدم الثقة الكاملة بمنجزات شعر الحداثة ليست بالغريبة على أوساط الشعراء بمن فيهم الأجانب. على أن هذا الأمر المتمثل بانتكاس الشاعرة على صعيد التجديد في سنواتها الأخيرة وانكفائها على نفسها، لا يغير شيئاً في كونها سواء بمسعاها التجديدي أو بتنظيرها لحركة الشعر العربي الجديد قد فاقت الكثيرين من الشعراء العرب أفقاً واجتهاداً وجرأة.

هذه الشاعرة الوجلة الدؤوبة بحساسيتها العالية أطلقت هي والسياب بدون شك شرارة التجديد في شعرنا المعاصر بخرقهما للقواعد التقليدية التي كانت سائدة لقرون. سوى أن المفارقة تكمن في أنها لم تجعل الخرق هو القاعدة السائدة. على أنها، سعت لإقناعنا أكثر من ذي قبل بفكرة أن «الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التي تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها» على حد تعبيرها.

لقد رحلت شاعرة مجددة هامة وحاضرة بمضاء في شعرنا المعاصر، خرقت صنمية القصيدة العربية وجعلتنا أقرب إلى الحداثة من ذي قبل. على صعيد المعاناة، كانت حياتها في السنوات الأخيرة تمثل وجه العراق الطموح العصامي المعذب الذي تلاحقه لعنة الآلهة.

هاتف جنابي

شاعر عراقي وكاتب ومترجم ومحاضر في جامعة وارسو

Email