«مملكة اشنونا» سبقت حمورابي في تشريع القوانين

«مملكة اشنونا» سبقت حمورابي في تشريع القوانين

ت + ت - الحجم الطبيعي

في محافظة ديالى .. هناك تلال مبعثرة تتفيأ بحرارة الشمس وتستظل بضوء القمر .. هي بقايا مملكة اشنونا .. جلال صمتها يوحي بصورة جلية عما احتوته من كنوز ثمينة.. مكتبات عامرة برقم طينية فيها من المعادلات الجبرية والنظريات الهندسية ما سبقت فيثاغورس وإقليدس بألف عام على الأقل .. ! ومن القوانين والشرائع فيها ما سبقت شريعة حمو رابي ..

سياحتنا هذه في المواقع الأثرية قالت لنا الكثير .. وقبل هذه السياحة، لا بدّ من المرور بالتاريخ القريب .. إلى الإعلان عن اكتشاف (اشنونا)، حيث أعلن أمين المتحف العراقي الأستاذ طه باقر عام 1945 نبأ اكتشاف لوحين مدونين لشريعة تدعى بـ «قوانين اشنونا»، وقد دونت باللغة السامية البابلية في موقع «تل حرمل»، أما تاريخ هذه القوانين فهو غير معروف بشكل أكيد، إلا انه يسبق شريعة حمو رابي بقرن ونصف القرن، وعدد موادها ( 61) مادة، وقد ابتدأت بتحديد الأسعار ..

ومن الغريب أن تبدأ بذلك، حيث لم نجد في بقية الشرائع مثلها. وهذه الظاهرة في الواقع تدفعنا إلى القول بأن هذه الشريعة قد صيغت وعرضت بأسلوب لم يتأثر إطلاقا بالأسلوب الذي عرضت به الشرائع التي سبقتها، وقد شملت موادها العشر الأولى الأجور اليومية للعمال، وأجور استخدام السفينة والقارب والدولاب، والفوائد السنوية للقروض، وصلاحيات المحاكم .. وأن عقوبة الموت (الإعدام ) لا تتم الا بموافقة الملك .

سميت ( اشنونا ) ( تل اسمر الآن ) نسبةً إلى عاصمتها، حيث ازدهرت في هذه المنطقة حضارة وادي الرافدين منذ أواخر العصر ( الحجري المعدني ) وقد شملت الأراضي الخصبة بين مثلث دجلة وديالى وسفوح مرتفعات ( زاجروس ) شرقاً وتعد من الدويلات المهمة في العصر البابلي القديم. و قد جاورت دولة اشنونا بلاد عيلام وبلاد آشور وبلاد أكد، مما جعلها ذات أهمية خاصة في تاريخ حضارة وادي الرافدين.

بالإضافة إلى تأثرها الحضاري والاقتصادي بالجهات الشمالية الشرقية وببلاد سومر وأكد من الجنوب . حيث التقت حضارة وادي الرافدين بالتأثيرات الثقافية الآتية من الجهات الأخرى، لذا تميزت حضارة هذه المملكة بخصائص محلية، إضافة إلى طابع حضارة وادي الرافدين العامة .

و من الخصائص المحلية أسماء بعض الآلهة وأسماء ملوكها وحكامها ولاسيما في فترة العهد البابلي القديم، فبعضها أسماء سامية، وبعضها من أصول عيلامية حورية . وكانت مملكة اشنونا تابعة إلى ملوك الدولة الاكدية، ثم من بعد فترة الحكم الكوتي إلى ملوك سلالة أور الثالثة.

عن مملكة ( اشنونا )، وتحديد مساحتها، وخصائص حضارتها، يقول الدكتور دوني جورج الاختصاصي في التاريخ القديم : جاورت مملكة اشنونا حضارات أخرى منها بلاد عيلام وبلاد آشور ومملكة ماري، فكيف استطاعت الحفاظ على خصائص الحضارة السومرية ؟

توجد في منطقة ديالى بعض المواقع الاثارية التي تمثلت فيها الحضارة السومرية بصورة جلية، ومن هذه المواقع تل أسمر وخفاجي واشجالي وتل أجرب، حيث عثر فيها على مخلفات جميلة من العصور السومرية الأولى والتي تسمى بعصور فجر السلالات 2900 - 0432 ق .م، أو عصر دويلات المدن السومرية.

واهم هذه المواقع كان موقع تل اسمر، حيث عثر فيه على مجموعة من التماثيل السومرية في معبد الإله ( آبو ) وكانت تزين العديد من خزانات القاعة السومرية في المتحف العراقي، أما في العصور اللاحقة فقد عثر على بعض المخلفات المعمارية في تل اسمر واشجالي وخفاجي تعود إلى عصر سلالة أور الثالثة ( 2125 - 5202 ق - م ) منها معبد ( سن ) وقصر الحاكم في تل اسمر ومعبد عشتار (كتيتوم) في موقع اشجالي .

ويتابع الدكتور دوني: عند انهيار دولة سلالة اور الثالثة، عادت البلاد ثانيةً إلى عصر دويلات المدن، وهي مثل العصور السومرية الأولى، نراها بشكل مجموعات صغيرة من المدن تجتمع في دويلة واحدة تقودها مدينة واحدة منها، وهنا كانت السيادة لدويلات المدن الامورية التي كانت السبب الرئيس في اسقاط سلالة اور الثالثة، حيث انقسمت بلاد الرافدين إلى مجموعة من دويلات المدن في عصر يسمى بعصر ايسن - لارسا ( 2025 - 3671 ق - م ).

وهما دويلتان قويتان تأسستا في جنوبي العراق، وتضاف لهما دويلة بابل، ومركزها مدينة بابل، ودولة اشنونا وعاصمتها في موقع تل اسمر في المناطق الواقعة شرقي دجلة في وسط البلاد، ودويلة ماري (تل الحريري) الواقعة على الحدود العراقية السورية في الوقت الحاضر، ولم تتوحد البلاد إلا بعد أن جاء الملك حمورابي إلى الحكم في بابل، حيث استطاع أن يوحدها مرة ثانية بعد أن سيطر على دويلات لارسا واشنونا وماري في عام 1763 ق - م.

ومن اهم المواقع قاطبة كان موقع تل حرمل ( شادويوم ) القديمة الواقع في ضواحي بغداد الآن، والذي يعود إلى مملكة اشنونا، حيث كانت هذه المدينة محاطة بسور منيع، وفي الوسط معبد كبير تحفّ به بيوت السكن وبعض المباني التي كانت مراكز دراسية علمية مهمة .

كانت هذه المدينة عبارة عن معهد علمي كبير عثر فيه على أكثر من ثلاثة آلاف رقيم طيني مكتوب بالمسمارية، وآثار كثيرة أخرى، احتوت تلك الرقم على قوائم بأسماء المدن والجبال والأشجار والحيوانات، ومعاجم باللغة السومرية والاكدية، واهمها قاطبة كانت الرقيم التي احتوت على المسائل الرياضية والجبرية والهندسية، وفيها الرقيم المعروف الذي احتوى على النظرية الهندسية التي عرفت فيما بعد بـ «نظرية فيثاغورس»، وأخرى بنظرية «اقليدس» في حل المسائل الهندسية بالطرق الجبرية، وهي جميعاً اقدم من فيثاغورس واقليدس بألف عام على الأقل .

كما عثر في هذا الموقع على رقيم الطين الرياضية التي احتوت على المتواليات العددية بارقام كبيرة جداً. وعثر كذلك في هذه المدينة على رقيم احتوى على قوانين مهمة جداً عرفت بـ «قوانين مملكة اشنونا»، التي سبقت قوانين حمورابي بنحو قرن ونصف قرن من السنين.

تقول ناهد عبد الفتاح ( ماجستير آثار ) ورئيسة هيئة تنقيب : جرى التنقيب في محافظة ديالى وبغداد في التلول المشار إليها في عام 1979 ولغاية 1983، وهي تلال تشكل بقايا مملكة اشنونا في العصر البابلي القديم .

وختاماً يؤكد الاثاريون أن كنوزاً أثرية ما زالت تتوسد ثرى ارض ما بين النهرين .. وأن ما اكتشف منها حتى الآن لا يشكل إلا نسبة قليلة جداً .. وهو تأكيد على عمق وأصالة حضارة العراق.

بغداد ـ «البيان»:

Email