وداعاً للوظائف وأهلاً بالبطالة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هل تعتقد أن وظيفتك لن تكون هناك حاجة إليها في يوم من الأيام؟

لنأخذ مهنة الطب على سبيل المثال. فالطبيب يتعلّم كيفية معالجة مرضاه بعد إكمال سنوات من الدراسة الجامعية التخصصية التي تمكنه من ترجمة الأعراض التي يشتكي منها الأشخاص إلى حالات مرضية معينة، وعلى أساسها وصف العلاج اللازم لهم. والطبيب يكتسب خبرته عن طريق آلاف الحالات التي تمر عليه خلال فترة مزاولته لعمله. وهذا يمكنه من أن يكون أكثر دقة وخبرة في معالجة الحالات المستقبلية.

فهل من الممكن أن تستولي أجهزة الكمبيوتر الحديثة، والتي تتمتع بتطبيقات الذكاء الاصطناعي على وظيفة الطبيب؟ نعم هذا ممكن، إذ من المحتمل أن تقوم أجهزة الكمبيوتر بتشخيص المريض بدقة أكثر من الطبيب عن طريق الاستعانة بملايين الحالات المرضية المخزنة فيها مقارنة بآلاف الحالات فقط التي يكتسبها الطبيب خلال فترة عمله. وفِي هذا الوضع لن تحتاج المستشفيات إلا إلى مساعدين لهذه الأجهزة الذكية بدلاً من عدد كبير من الأطباء الاختصاصيين.

وقِس على ذلك مهناً أخرى لم نكن نتوقع أن تتأثر نتيجة التطور العلمي كالهندسة والمحاماة والطيران والتدريس والاستشارات المالية، وما إلى ذلك من مهن تتمتع بالتعقيد وقدر كبير من التخصصية. ونحن هنا لم نتطرق إلى الوظائف المكتبية والروتينية التي نحن أصلاً لسنا بحاجة إليها ونستطيع أن نتخلى عنها مباشرة.

فماذا يجدر بِنَا أن نفعل في ظل هذا الغزو التكنولوجي الذي قد يسلبنا وظائفنا في المستقبل؟

البعض منا قد يقاوم التغيير والتطور بداعي الحفاظ على توازن المجتمع. وهؤلاء ينظرون إلى التغيير دائماً بنظرة سلبية. لكن المقاومة لن تُجدي إذا أثبت التاريخ أن التطور العلمي والتقني يصبح دائماً الرابح، سواء كانت القوى المضادة حكومات أم أشخاصاً ذوي نفوذ. فالتغيير سوف يحدث حتى إذا أدى إلى خسارة فئة كبيرة من المجتمع.

وهناك البعض ممن يَرَوْن أن الاستعداد للمستقبل عن طريق التنبؤ به أفضل من مقاومته. التنبؤ بالمستقبل له حسناته، إذ إن معرفة طبيعة الوظائف المستقبلية تجعلنا نبني المهارات اللازمة التي تحتاجها هذه الوظائف في المستقبل. ولكن وفي الكثير من الأحيان المستقبل لن يكون كما تخيلناه لأن زمننا الحالي يتسم بسرعة التغيير، وهذا ما قد يهدم كل ما نبنيه للمستقبل، وخاصة استعداداتنا للوظائف المستقبلية.

وهنا يجدر بنا التساؤل، إذا كان التنبؤ بالمستقبل مغامرة قد لا تؤتينا بالنتائج المرجوّة فما الحل إذاً؟ الحل يكمن فينا، وسوف يساعدنا على إبقاء وظائفنا إلى حد ما وإعداد أنفسنا للمستقبل مهما كان مجهولاً أو غامضاً.

سنكون على أعلى استعداد للمستقبل عندما نجعل عقولنا تعتاد على التساؤل والتفكير في ما يجري حولنا بدلاً من جعل الأحداث تمر علينا مرور الكرام بلا أي ردة فعل من طرفنا.

سنكون على أكمل جاهزية للمستقبل عندما نتبنى التعلم المستمر الذي هجرناه منذ أن أنهينا مرحلتنا الدراسية. ولا أقصد بالتعلم المستمر الدورات التدريبية التي عادة ما تكون مفروضة علينا كجزء من متطلبات وظائفنا، بل أقصد بالتعلم المستمر التعوّد على البحث والقراءة والنقاش وتحويله من عادة إلى أسلوب حياة. التعلم المستمر يعطيك القدرة على التعامل مع أي تغيير ويمنحك الثقة بالنفس التي تساعدك على إعادة تأهيل قدراتك لأي تحد أو وظيفة في المستقبل.

سنكون على أفضل تأهّب للمستقبل عندما نبدأ بممارسة وظائفنا كبشر بدلاً من أن نمارسها كمجموعة خطوات جافة كالآلة. فلنرجع للطبيب، فالابتسامة التي يعطيها للمريض والتحدث معه بطريقة شخصية ستحدث الفارق وتجعل وظيفته لا تستبدل حتى بأذكى آلة في العالم. نحن هنا لسنا بصدد الحفاظ على الوظائف، ولكننا على يقين أننا إذا أدّينا وظائفنا بشكل شخصي فلن تستطيع أي آلة من المساس بمعظم هذه الوظائف في المستقبل.

وفِي الختام، النهضة البشرية لم تَحدُث عن طريق تكنولوجيا أو آلات تصف نفسها بأنها ذكية وإنما حدثت نتيجة مخيّلة أشخاص أرادوا أن يروا العالم بطريقة مختلفة.

* كاتب ومحلل إماراتي

Email