عدم التعلم من دروس الأزمات المالية يحتم تكرارها

ت + ت - الحجم الطبيعي

يصرّ خبراء الأسواق المالية على أن الكلمات الأربع الأكثر خطورة في «وول ستريت» اليوم تقول: «الأمر مختلف هذه المرة».

لكن نادراً ما يكون الحال كذلك، ففي خريف العام 1929، أكد المحلل الاقتصادي البارز في جامعة يال، إيرفينغ فيشر للأميركيين أن أسعار الأسهم قد بلغت «الحدّ الأعلى الدائم على ما يبدو»، وكان ذلك في 15 أكتوبر، أي قبل بضعة أيام من الأزمة المالية العالمية الملحمية التي ضربت وساهمت مع نظيرتها في العام 1931 في تخفيض قيمة أسهم الأميركيين بحوالي 90 بالمئة. وفي مطلع العام 2000، طرح المحللون التقنيون فرحين فكرة أن العائدات والأرباح لم تعد المقياس الأهم في عالم الإنترنت. إلا أن فقاعة المواقع الإلكترونية ومؤشر «ناسداك» المتخم بالتكنولوجيا تراجعا بنسبة 80 بالمئة تقريباً بين مارس 2000 وأكتوبر 2002. من الواضح أنه حين تبلغ الأسواق المالية أعلى مستوياتها، يصبح مدمراً الاعتقاد بأن المعدلات المحلقة تشكل مؤشراً على نوع من النقلة المالية الجوهرية.

إلا أن الأسواق تكون في بعض الأحيان مختلفة بالفعل. ويعتبر 15 أكتوبر من العام 1987 واحدة من تلك المرات بالفعل، إذ سطّر الاثنين الأسود يوم السقوط الأكبر في سوق وول ستريت. فتراجع مؤشر «دو جونز» في يوم واحد فقط بنسبة 22.6 بالمئة. وكانت الانخفاضات السريعة التي بدا إيقافها غير ممكن أسوأ مرتين من أسوأ أيام انهيار العام 1929، ولم تقرب بمدى سوئها يوماً من أيام الأزمة المالية الحالكة عام 2008.

وأعتقد أن ما جعل التراجع بهذا الاختلاف لا يعود إلى نطاقه وسرعته، بل وفي إدراك متأخر، إلى انهيار الأسواق الأول الحديث، بالنظر إلى التغييرات البارزة والدائمة في كيفية عمل وول ستريت، وهي تغيرات لا يزال المنظمون وبشكل محيّر عاجزين عن التعامل معها تماماً بالرغم من تضخمها وتسببها بالأضرار مجدداً في العام 2008.

وكانت الأزمات المالية قبل العام 1987 تقتصر حكراً على أسواق محددة كالبورصة، وأسواق الذهب والسندات أو السلع. لكن عشية وقوع اليوم الأسود، هزّ الاضطراب كل الأسواق في وقت واحد، ونشر الرعب في كل أنحاء العالم. وعمدت السرعة التي تجاوزت بها الأزمة كل التحصينات المالية التقليدية إلى تعرية النظام التنظيمي المقسّم، الذي كافح للاستجابة على نحو متجانس ومتناسق.

كما شكل انهيار العام 1987 الأزمة المالية الأولى التي ضمت استخدام المشتقات المالية واسعة النطاق، تحديداً تلك المتعلقة بالعقود الآجلة، وعقود الخيارات التي تتقفى العديد من مؤشرات الأسواق المالية المختلفة. واتسم انهيار العام عينه بأنه الأول الذي ساهم الاعتماد المتنامي على الكمبيوترات لوضع طلبيات السوق وتحريك السيولة بين الأسواق، بتسريع وتيرته.

وقد شكل الاثنين الأسود بما أسفر عنه من تغيرات تشويهية، نوعاً مختلفاً من الأزمات بحق، إذ أتاح لوول ستريت وواشنطن التطلع للمستقبل، بقدر ما تجرأتا على ذلك. ولم يكن في ذاك المستقبل، أي وجود للأسواق المعزولة، بل لسوق واحدة حيث كبار المستثمرين يجتاحون بسرعة وعلى نطاق غير مسبوقين.

باختصار، عكست أزمة 1987 تغييرات دائمة في طريقة عمل الأسواق. إلا أنها لم تؤد إلى إصلاحات مجدية. ولا عجب من أن الانهيارين الماليين الأكثر تدميراً للأعوام الثلاثين الماضية سيما 1987 و2008 يبدوان متشابهين. وتمّ الضغط على المنظمين الذين اقتصرت صلاحياتهم على مساحات ضيقة من السوق الموحّد الكبير، لتنسيق الاستجابة على الأزمة مع انتشار الرعب.

ترجِّع قصة نجاة النظام الاقتصادي عام 2008 صدى ما حصل عام 1987. حيث لعب عامل تخفيف القيود الائتمانية من قبل النظام الاحتياطي الفيدرالي دوراً مفصلياً في كلا الحدثين. كما ساعد ظهور قادة براغماتيين عازمين على الخروج عن نسق السلطات التقليدي المعتاد في استعادة الثقة بين الناس وتهدئة حالة الرعب المتزايد. وتضمنت لائحة القادة لعام 1987 إي. جيرالد كوريغان رئيساً للمصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وجون فيلان الابن رئيساً لسوق الأوراق المالية في نيويورك. أما في العام 2008 فضمّت القافلة كلاً من وزير الخزانة هانك بولسون، ورئيس البنك الاحتياطي بن بيرنانكي.

لم تنجح كل التجارب التي قام بها هؤلاء في عامي 1987 و2008، لكن بدا أنهم فهموا تلقائياً العبرة التي أشار إليها الرئيس الأميركي الأسبق فرنكلين روزفلت في ربيع 1932 القاتم، حين قال: «تتطلب البلاد إجراء اختبارات جريئة على الدوام. ويفترض المنطق وجود نهج ما والقيام بالتجارب عليه، فإن فشل، نعترف بالخسارة بصدق ونجرب من جديد. لكن بجميع الأحوال، نستمر بالتجربة».

ومن جهة أخرى أشار فيلان في حديث أجراه عام 1987 بالقول: «لا يريد أحد تغيير أي شيء قبل أن تصعق الكوارث المتتالية، حيث يبدأ الجميع بالتخبط». وهذا ما لا يعتبر هذه المرة مختلفاً، على نحو مثير للشفقة.

Email