رواد الفكر الاقتصادي الاسلامي (5)

ت + ت - الحجم الطبيعي

اذا اردنا أن نقدم لمحة عن رواد الفكر الاقتصادي الاسلامي يمكننا أن نتوقف عند هؤلاء على سبيل المثال: ـ الفارابي: هو أبو النصر محمد، ولد في فاراب (آسيا الوسطى) 876 ميلادية والتي هي اليوم في الجمهوريات الاسلامية التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي.. توفى في دمشق سنة 950 م. وتنقل بين بغداد وحلب (في بلاط سيف الدولة) ويعد من اعظم فلاسفة العرب ولو انه من اصل غير عربي (العروبة ليست بالدم وانما بالانتماء والايمان) وفوق كل ذلك عقيدته الاسلامية التي تعتبر العروبة ولغة الضاد وعائها الفكري وعاءها، لقب بالمعلم الثاني بعد ارسطو: جوهر فلسفته قائم على التوفيق بين تفكيره الاسلامي الخاص وفلسفة ارسطو المثالية/ المادية) فنشأت عنه فلسفة اسلامية جديدة. كان مضطلعاً بالرياضيات وفن الموسيقى، ويقتبس اليه اختراع آلة القانون. ومن اهم مؤلفاته: احصاء العلوم وما ينبغي ان تعلم قبل الفلسفة المطبوع بعنوان: المجموع من مؤلفات الفارابي في مصر عام 1907، و(مقاله في العقل) والجمع بين رأي الحكيمين (افلاطون وارسطو) واجوبة عن (مسائل فلسفية) و(تحصيل السعادة) و(رسالة في اثبات المفارقات) و(عيون المسائل) و(نصوص الحكم) و(رسالة في السياسة) و(آراء اهل المدينة الفاضلة) و(اغراض ارسطو في كتاب ما بعد الطبيعة). ان اهم كتبه التي تخدم غرضنا هو آراء «اهل المدينة الفاضلة» يعرض فيه تفسيراً لقيام الجماعة واستمرارها، وهنا يشبه افلاطون إلى حد كبير حيث يرجع اصل المدينة وبالتالي الدولة إلى عامل اقتصادي وهو تقسيم العمل، حيث ان كل فرد في رأيه لا يستطيع ان يشبع كل حاجاته بمفرده، لذلك يضطر إلى الاجتماع مع الآخرين والتعاون معهم من اجل اشباع حاجاته، عندئذ تقوم الجماعة. وبالطبع انه يناقض افلاطون في كثير من الامور وخاصة في قضايا شيوعية التملك وشيوعة العائلة ويرد عليه بحجج فلسفية وعلمية. ـ ابن سينا (980 ـ 1037م): من كبار فلاسفة العرب وعلمائهم ولد في اخشفه قرب بخارى وتوفي في همدان، عالم بالرياضيات وطبيب بالاضافة إلى فلسفته. تعمق في فلسفة ارسطو وتأثر بالافلوطونية الجديدة (نسبة إلى افلوطين وليس افلاطون) والاول ولد في مصر عام 207م زاهد وفيلسوف تأثر بافكار افلاطون واسس المذهب الفلسفي المعروف باسم (الافلوطونية الجديدة) حاول فيه التوفيق بين الفلسفة اليونانية والمعتقدات الدينية الشرقية (خاصة المسيحية) وكثيراً ما جاءت اراؤه مضادة للعقيدة المسيحية كان له تأثير عميق على مستمعيه، جمعت تعاليمه في (التاسوعات) وكان لانتشارها وقع خطير على الفلسفة والتصوف من بعده. لذلك لاغرابه ان وجدنا ابن سينا يقول بوجود العقل العام ويدافع عن خلود النفس ووحدة الخالق. كان له تأثير عميق في الصوفية ومن مؤلفاته المطبوعة (القانون في الطب) و(الشفاء في الفلسفة)، و(الاشارات والتنبيهات في المنطق) وكتاب (النجاة). واهم افكار ابن سينا الاقتصادية انه نادى بألا يكون في المدينة انسان عاطل عن العمل وليس له مقام محدود وعمل معين لان ذلك ينقص المنفعة العامة لتلك المدينة.. وهنا نتلمس من كتاباته بدايات لنظرية المنفعة في الاقتصاد الحديث التي ظهرت آواخر القرن التاسع عشر. حيث يشير إلى ان اساس التبادل ومن ثم القيم ما هي الا منافع الاشياء.. (في النظرية الحديثة.. تقدر السلعة بقدر منفعتها.. ونظراً لتعذر تقدير المنفعة الكلية فقد اهتدى العلماء إلى تفسير المنفعة عن طريق افتراض تناقض المنفعة كلما ازداد عدد الوحدات المستهلكة.. والقيمة تتحدد عند المنفعة الحدية (آخر وحدة مستهلكة لا تكون منفعتها سالبة). ثم ان ابن سينا حارب الاعمال غير المنتجة (المحرمة دينياً) ولكن باسلوب فلسفي اقتصادي.. فهو مثلاً يحرم القمار من وجهة نظر اقتصادية، لان المقامر ياخذ من غير ان يعطي منفعة اطلاقاً. في حين ان الشخص الذي ينال نصيباً من الثروة يجب ان يشارك في عمل نافع ومنتج كالصناعة والتجارة والزراعة او ما شابه.. حيث ان مثل هذه الاعمال فيها فوائد للجميع ولذلك فإن المشارك في مثل هذه الاعمال النافعة يستحق عوضاً. ان وقفات ابن سينا بهذا المجال تجعله من اهم رواد نظرية المنفعة في الاقتصاد ان لم يكن اهمها على الاطلاق. اما دفاعه عن الاعمال المنتجة ومحاربته للاعمال غير المنتجة ومن منطق اقتصادي يعد بذرة حقيقية من بذور الفكر الاشتراكي او بالاصح.. الكاشف لجوهر الفكر الاقتصادي الاسلامي. ـ أحمد بن علي الدلجي: عاش في القرن الخامس عشر الميلادي في مصر كتابه (الفلاكه والمفلوكون) ـ الفقر والفقراء ـ كتبه في الفترة 1412 ـ 1421م ليبحث فيه عن أسباب غلبة الفقر على الانسان، وقد قسم المعاش الى وجوه طبيعية ووجوه غير طبيعية، فالأول يشمل الزراعة والصناعة والتجارة والأموال الموروثة وخدمات العلماء والعمل المهني (الحرفي) اما الثاني، فيأتي من عمليات التنجيم ومحاولات قلب المعادن الرخيصة الى معادن ثمينة وما شابه. واوضح طرق ووسائل نجاح كل نشاط من انشطة المعاش الطبيعي. فالزراعة مثلاً تحتاج الى نظام حكومي (مؤسسي) واضح وعادل في حين ان فساد مثل هذا النظام يضعف الانتاج بالاضافة الى الحاجة الى رفع كفاءة العمل والمواد الأولية (الانتاجية) وعدم تعرض الزراعة الى الآفات. اما التجارة فيلزمها رأس مال كاف لتوزيعه على أكبر عدد ممكن من السلع كي يقدم مرونة كبيرة للتاجر، ويتوقف نجاح التجارة أيضا على توقع ما سيكون عليه السوق (توقعات العرض والطلب) واستتباب الامن والطمأنينة. اما الصناعة فانها تحتاج الى رأس مال وعلم ماهر وسوق، وهي تقريباً تفي متطلبات الصناعة الحديثة. ويرى ان قلة الطلب على خدمة العلماء راجع الى كثرة عرضهم وفي هذا اشارة واضحة الى قانون العرض والطلب. يحث الدلجي في مشكلة الفقر والاثار السلبية والسيئة المترتبة عليه، الا انه لم يكن دقيقاً ولا علمياً عندما حمل الفقراء مسئولية فقرهم، وعزا ذلك الى كسلهم وقعودهم عن العمل، ولم يدرك ان أسباب الفقر الحقيقية تضرب عميقاً في جذور النظام الاقتصادي الاجتماعي السائد، ان الكسل ليس من طبيعة البشر في شيء، ولايتجه اليه الانسان الا مضطراً. على كل فقد استطاع الدلجي ان يحلل العوالم المختلفة التي تؤثر على أكثر فروع النشاط الاقتصادي المختلفة لمفهوم ارسطو في نطاق علم الاقتصاد، والفارق ان ارسطو كان ينظر بخشية وحذر الى النشاط التجاري، نرى ان الدلجي يدخل هذا النشاط في نطاق النشاط الطبيعي وهي نظرة علمية وصحيحة افتقرها ارسطو في حينه. ان العالم الذي وقف وقفات تحليلية هامة في علم الاقتصاد من الرواد المسلمين هو بلاشك ابن خلدون. وانه سبق العلماء لا السابقين عليه فقط بل واللاحقين ولقرون طويلة، وهذا ما سندرسه بشكل أكثر تفصيلاً في الحلقات المقبلة ان شاء الله. بقلم: أ.د. محمد عارف كيالي _ استاذ اقتصاد جامعي

Email