بدأ في العام 1868 «البؤساء»، «شبح الأوبرا، و«شيكاغو» من أهم ملامحه

المسرح الغنائي..تطورات جذرية تتناغم مع معطيات العصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكثر من مليار دولار كان حجم الإيرادات التي حققتها المسرحية الغنائية «شيكاغو» من خلال عروضها الداخلية على مسارح «برودواي» العالمية في مدينة نيويورك الأميركية، وعروضها الخارجية التي شاهدها أكثر من 17 مليون شخص على مستوى العالم.

غير أن القائمين عليها لم يكتفوا بذلك، إذ قرروا الإبحار بها إلى دبي دانة الدنيا، كي تحقق مزيدا من النجاحات العالمية بفضل ما تتمتع به هذه الإمارة من سمعة في أرجاء المعمورة أكسبتها احترام الجميع على مختلف الأصعدة.

إنها «شيكاغو»، المسرحية الغنائية الشهيرة التي ستُعرض على مسرح قاعة أرينا في مدينة جميرا خلال الفترة من الرابع حتى الثالث عشر من مايو المقبل في خطوة تعد الأولى من نوعها في دبي لعرض مسرحية غنائية تمثل أحد أبرز عروض مسرح «برودواي» في مدينة نيويورك الأميركية.

وبعيدا عن التعريف بهذا العمل وأبطاله وأحداثه، وهي العناصر التي تناولتها مقالات عديدة في الأيام السابقة، تحمل السطور المقبلة إضاءة أوسع على مفهوم المسرح الغنائي الذي تنتمي إليه هذه المسرحية العالمية.

وتاريخ هذا المسرح وأهم أعماله والأبطال الذين لمعوا به ونالوا شهرتهم من خلاله، وذلك في محاولة لإثراء معلومات القارئ عن هذا النوع الفني الذي يطرق أبواب دبي للمرة الأولى في تاريخ دولة الامارات العربية المتحدة.

المسرح الغنائي هو شكل من أشكال الفنون المسرحية، يجمع بين عناصر الموسيقى والأغنية والاستعراضات الراقصة والحوارات المنطوقة. ومن الوهلة الأولى يتبين أن ثمة صلة كبيرة بين هذا الجنس من الفن وفن الأوبرا.

غير أن ما يميز المسرح الغنائي عن الأوبرا في العادة هو استخدام ألوان مختلفة من الموسيقى والآلات الموسيقية، بالإضافة إلى ما يُعرف فنيا باسم الحوار غير المصاحب ( وذلك على الرغم من أن بعض المسرحيات الغنائية تتضمن حوارات تصاحب جميع فصول المسرحية، مثل مسرحية «البؤساء».

وفي الوقت نفسه، هناك بعض الأعمال الأوبرالية التي تتخللها حوارات منطوقة مثل «أوبرا كارمن»، وتتجنب الكثير من التقاليد الأوبرالية المعروفة.

وغني عن القول ان هناك عدداً من الأعمال الفنية التي شكلت عصب المسرح الغنائي العالمي على امتداد تاريخه ولا يمكن التحدث عن هذا المسرح من دون الإشارة إليها، مثل مسرحيات «القطط» و« الآنسة سايغون» و« البؤساء» و«شبح الأوبرا».

ويشير النقاد إلى أن هناك ثلاثة عناصر مكتوبة لأي مسرحية غنائية، وهي الموسيقى والقصائد الغنائية والسيناريو. وهذا الأخير يُراد به السطور المُتحدث بها وليس تلك المُتغنى بها أثناء أحداث المسرحية.

ويمثل عدد كبير من الأعمال المسرحية الغنائية الأساس الذي اقتبست منه كثير من الأعمال السينمائية التي حققت نجاحات فنية كبيرة، سواء على مستوى النقاد أو الجماهير. ويعد فيلم «شيكاغو»، المقتبس عن المسرحية، أحد الأمثلة في هذا الشأن.

وفي الوقت الذي تُعرض فيه الأعمال المسرحية الغنائية في مختلف أنحاء العالم، إلا أن أشهرها وأكثر نجاحا هي تلك التي تُعرض على مسارح برودواي في نيويورك وفي مسرح «ويست إند» في عاصمة الضباب لندن.

وتتراوح المدة الزمنية لأي مسرحية غنائية من دقائق قليلة إلى عدة ساعات، غير أن معظم المسرحيات الغنائية تتراوح مدتها بين ساعتين وساعتين و45 دقيقة في الغالب. ودائما ما يكون الفصل الأول في المسرحية الغنائية أطول من الفصل الثاني.

وعادة ما تحتوي المسرحية الغنائية من عشرين إلى ثلاثين أغنية مختلفة الطول الزمني، إضافة إلى بعض الحوارات واللقطات. غير أن بعض المسرحيات الغنائية تقتصر فقط على الأغنيات ولا تتضمن أي حوارات منطوقة، وفي هذه الحالة يذوب الفارق بينها وبين الأعمال الأوبرالية.

وقد ظهرت أول مسرحية تحمل المفهوم العصري للمسرحية الغنائية عام 1866 ، وهي مسرحية « الوغد الأسود» من تأليف تشارلز إم باراس والتي عرضت للمرة الأولى في مسارح «غاردنز» في نيويورك في 12 سبتمبر 1866.

وبدأت المسرحيات الغنائية على مدار السنوات التالية كأعمال شديدة الشبه بالأعمال الأوبرالية لا تهتم كثير بالحبكة الفنية وتُركز في المقام الأول على نجومية الأبطال وعلى أعمال الرقص المبهرة والأغنيات الشعبية.

حيث ظهر ذلك جلياً في فترة العشرينات. غير أن أكثر المسرحيات قرباً في تلك الفترة إلى ما نعرفه حاليا من شكل المسرحيات الغنائية هي « المسرح العائم» التي بدأ عرضها في عام 1927 في مسرح «تسيغفيلد» في نيويورك.

وبعد النجاح الذي حققته تلك المسرحية مقارنة بما تم إنتاجه من قبل من مسرحيات غنائية، بدأ المهتمون بالمسرح الغنائي يطورون من شكل ومضمون تلك المسرحيات، فظهرت مسرحية «عنك أُغني» ) أوف ذي أي سينج) عام 1931 من إخراج جورج جيرشوين،.

وهي المسرحية الغنائية الأولى التي حملت نقداً سياسياً ساخراً للاحوال والظروف السياسية التي كانت موجودة في حقبة الثلاثينات، وكذلك أول مسرحية غنائية تُمنح جائزة «بوليتزر» للصحافة.

ومع بدء عقد الثلاثينات انطلق بالفعل ما يمكن تسميته «العصر الذهبي» للمسرح الغنائي، وهو العصر الذي دشنه عرض مسرحية «أوكلاهوما» في 1943 وانتهى بعرض مسرحية « هير» في 1968.

فقد كانت مسرحية « أوكلاهوما» أول مسرحية غنائية تشتمل بالفعل على حبكة فنية متكاملة الأركان تساندها أغنيات وأعمال راقصة تخدم الموضوع الأساسي للمسرحية بدلا من التركيز على أجساد البطلات على المسرح. وحطمت تلك المسرحية جميع التقاليد التي كان يُعمل بها في المسرحيات السابقة لها.

فعلى سبيل المثال كانت العادة تقتضي في أي مسرحية غنائية أن يُرفع الستار على مجموعة من فتيات الكومبارس وهن يؤدين تشكيلة من الاستعراضات الراقصة.

غير أن الستار في مسرحية «أوكلاهوما» رُفع على مشهد امرأة تخض كمية من الزبد مع سماع صوت من خارج المسرح يتحدث بالعبارة الافتتاحية للمسرحية: «يا له من صباح جميل!» وكانت «أوكلاهوما» أول عمل مسرحي يمكن أن يُطلق عليه وصف «عالمي» في مسارح برودواي ، حيث قدمت 2212 عرضا، ما جعلها واحدة من أهم المسرحيات الغنائية في تاريخ برودواي.

وشجع النجاح الكبير الذي حققته «أوكلاهوما» على مواصلة إنتاج مسرحيات على ذات النهج، مما أفسح المجال إلى تطوير مفهوم المسرح الغنائي بشكل عام وظهرت روائع مسرحية عديدة مثل « سيدتي الجميلة» المقتبسة عن رائعة جورج برنارد شو «بيغماليون»، التي حققت نجاحات فنية كبيرة وشهدت أكثر من 2717 عرضاً وهي بطولة ريكس هاريسون وجولي أندروز.

وفي عام 1957 شهد المسرح الغنائي واحدة أيضاً من أهم أعماله وهي مسرحية «قصة الحي الغربي» من إخراج جيروم روبينز.

وبمرور السنوات، تطورت المسرحيات الغنائية بشكل كبير وخرجت من الحدود الضيقة لفترة الخمسينات من القرن الماضي.

ومثلت مسرحية «هير»، التي كتبها المؤلفان جيمس رادو وجيروم راجني، نقلة جديدة في تاريخ المسرح الغنائي إذ كانت أول مسرحية تُضمّن موسيقي الروك في المسرح الغنائي. وقد أحدثت تلك المسرحية قدراً كبيراً من الجدل لكونها قدمت بعداً جديداً للمسرح وقتها لم يكن المشاهدون يألفونه من قبل، وهو الاعتماد على تقنيات التعري في كثير من مشاهد المسرحية.

وتعتبر «هير» أو « الشعر» من المسرحيات التي تحولت أيضاً إلى أفلام سينمائية، إذ عُرض فيلم «هير» في 1979 من إخراج ميلوش فورمان.

ومن الأعمال الغنائية المسرحية المُهمة أيضا التي اعتمدت على موسيقى الروك في أحداثها في فترتي الستينات والسبعينات، مسرحية تناولت حياة السيد المسيح عليه السلام، وهي مسرحية « جيسيس كريست سوبر ستار»، التي مثلت هي الأخرى بداية جديدة للمسرح الغنائي شجعت المؤلفين على تناول القضايا الشائكة في أعمالهم المسرحية الغنائية.

وقد جاء ظهور هذا النمط من المسرحيات الغنائية ليجعل من مشاهدي «برودواي» أكثر استعدادا لتقبل المسرحيات الغنائية التي تخرج عن كل ما هو مألوف في الشكل والمحتوى. فجاء موسيقيون من أمثال الموسيقار الكبير جون كاندر وكذلك فريد إيب ليسبرا غور الأحوال المعيشية في ألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية من خلال مسرحية « كاباريه».

واعتمدت بعد ذلك مسرحية « شيكاغو» على التقنيات الهزلية لتعرض أمام المشاهد قصة عن القتل وما يدور خلف الكواليس في وسائل الإعلام.

ثم جاء عقدا الثمانينات والتسعينات ليشهدا التأثير الكبير الذي تركته ما عُرف ب «مسرحيات الوزن الثقيل» الأوروبية، أو الـ « بوب أوبرا»، وهي نوعية من المسرحيات تعتمد على عنصر الإبهار وأعداد ضخمة من الممثلين والموسيقيين والراقصين وكم كبير من المؤثرات الصوتية.

ومن خلال تلك المسرحيات بدأت تظهر مشاهد جديدة كانت مقتصرة على الأفلام السينمائية مثل هبوط طائرات هليكوبتر على المسرح، وما شابه ذلك.

أما في الوقت الراهن فيتبين أن المسرحيات الغنائية أخذت عدة اتجاهات مختلفة نتيجة تغير طبيعة الساحة المسرحية بشكل عام وطغيان عنصر الكسب المالي على كل شيء. فولت تلك الأيام التي كان هناك فيها منتج واحد فقط، من أمثال دافيد ميريك أو كاميرون ماكنتوش، يقوم وحده بإنتاج المسرحية من الألف إلى الياء.

فالآن يجد المتابع لأحوال المسرح الغنائي تشكيلة كبيرة من الرعاة من مختلف الأطياف يسيطرون على الإنتاج الفني لبرودواي، ويحدث في أحيان كثيرة أن تكون هناك تحالفات واندماجات من أجل إنتاج مسرحيات غنائية وذلك بسبب الاستثمارات الكبيرة التي تتطلبها الآن مثل تلك النوعية من الأعمال الفنية، والتي قد تصل قيمة العمل الواحد منها أحيانا إلى 10 ملايين دولار أو أكثر.

وإذا نظرنا إلى مستقبل المسرح الغنائي، نجد أنه يمكن التنبؤ بعودة مرة أخري إلى تلك الأيام التي شهدت قيام الرومان بتمثيل المعارك البحرية على خشبة المسرح.

ويتجلى هذا الأمر في مدينة تورنتو الكندية الآن من خلال العرض العالمي الأول لمسرحية «سيد الخواتم»، التي توصف بأنها أضخم إنتاج مسرحي في تاريخ المسرح الغنائي.

إعداد: حاتم حسين

Email