محمد صالح القرق صاحب متحف «رباعيات الخيام»

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

 «منذ المرة الأولى التي استمعت فيها لأشعار رباعيات عمر الخيام التي كان يلقيها على مسامعي صديق والدي المقرب الشاعر العلامة الشيخ أحمد بن محمد القنبري، بصوت جميل وإلقاء يكشف عن معاني الأبيات، تعلقت بالرباعيات».

هذا ما قاله الأديب والكاتب محمد صالح القرق، الذي يُعد من رواد الحركة الثقافية في الإمارات، في بداية لقائه مع «البيان» حول رحلته الأدبية التي ارتبط جزءٌ منها بشغفه في اقتناء كتب رباعيات عمر الخيام، بمختلف لغات العالم، لتشكل في مجملها، ما يشبه متحفاً قائماً بحد ذاته سواء على صعيد الكتب أو جماليات أغلفتها الفنية.

خارج الزمن

يشعر المرء لدى دخوله مكتبة القرق المستقلة بنفسها في محيط بيته، والتي تكسو جميع جدرانها من السقف وحتى الأرض، أرفف تضم كتباً مجلدة بعناية لمجموعات من الدوريات والإصدارات القديمة والنادرة، أنه يترك زمنه خارجاً ليعيش في صومعة للعلم والأدب تعيده إلى العصر الذهبي لنهضة الثقافة في العالم العربي.

كتب وأغلفة

يبادر القرق قبل بدء الحوار، باستخراج عدد كبير من صور الأغلفة الخاصة بكتبه عن (رباعيات الخيام)، إلى جانب كتب أخرى مختلفة بالأحجام المتنوعة واللغات العديدة: كالعربية والفارسية والإيطالية والروسية والاسبانية والانجليزية والصينية.. وغيرها.

ويقول القرق الذي يمتلك ذاكرة استثنائية في إلقاء أشعار القدماء والمواقف والأحداث بدقة وعفوية تثير الإعجاب والتقدير، في مستهل حديثه حول بدايات شغفه بالأدب العربي:

«عشت طفولتي في رحاب مكتبة والدي المحب للأدب الذي جمع في مكتبته مختلف المطبوعات والإصدارات الدورية لمنشورات كدار الهلال ودائرة المعارف في مصر، خاصة بعدما أصبح وكيلاً لها في الإمارات عام 1940، إلى جانب تعلمي مبادئ اللغة العربية، من نحو وصرف وبلاغة، منذ كان عمري 12 عاماً، على يد العلامة القنبري، والذي كان يقرأ لي بين حين وآخر، أبيات (رباعيات الخيام) من ترجمة محمد السباعي».

سر الرباعيات

ويقول القرق عن سر ودوافع تعلقه برباعيات الشاعر عمر الخيام: «يحكي الخيام في أشعاره عن حقيقة الحياة والحكمة ومعاناة الإنسان، فهناك من الناس من أنعم الله عليه بالمال والجاه ومع ذلك لا يعرف معنى السعادة، وهناك الفقراء والمحتاجون الذين تتجلى آلامهم في آهات أشعاره. كما يتناول قيّم الحياة والأخلاق في معاني الصداقة والعداوة والهجران والوفاء، وكل ما يخطر في البال». ويردف كلامه بإلقاء أبيات من شعر الخيام عن معاشرة الناس:

«عاشر من الناس كبار العقول

وجانب الجهال أهل الفضول

واشرب نقيع السم من عاقل

واسكب على الأرض دواء الجهول».

ويتبعها بشعر له في التأمل والزهد قائلاً:

«أتـدري لمـاذا يُصبـح الـديك صائحا

يـردد لحـن النـوح فـي غـرة الفجر

ينـادي لقـد مـرت مـن العمـر ليلة

وهـا أنـت لـم تشـعر بذاك ولا تدري».

رحلات البحث

يعود القرق للحديث حول بعض تفاصيل رحلات اقتنائه: «وعندما كبرت بدأت بشراء أي كتاب خاص بالرباعيات في محيط مكتبات البلدان العربية، وتوسع هذا الاهتمام مع بدايات أسفاري إلى البلدان الأوروبية، لأبحث في المكتبات العامة والأكشاك التي تبيع الكتب القديمة.

ومثال عليها، تلك المنتشرة على نهر السين في باريس، حيث كنت أسأل أصحاب الأكشاك وعلى مدى خمس سنوات، في كل زيارة لي بموسم الصيف، عن إحدى الرباعيات التي ترجمها الانجليزي إدوارد هنري وينفيلد «1836 – 1922»، والتي لم تكن متوفرة عندي».

ويتابع القرق خلال رحلته مع الزمن: «في العام الخامس، وبينما كنت أمر على الأكشاك التي حفظني أصحابها، ربتت سيدة على كتفي وقالت لي: أنت من يبحث عن ترجمة الرباعات لوينفيلد؟ فأجبتها نعم. فقالت اتبعني. واتجهنا إلى الكشك الخاص بها وبعد فتحها له، ناولتني النسخة التي كنت أبحث عنها، والتي احتفظتْ بها إلى حين عودتي. وكان الكتاب بحالة ممتازة، ولكأنه خرج من المطبعة للتو، وباعتني إياه بسعر معتدل».

في فرايبورغ

ويروي بحماس، مغامرة أخرى له بين فرنسا وألمانيا قائلاً: «كنت أبحث خلال إقامتي في بلدة إيفيان بجبال الألب في فرنسا، عن ترجمة قديمة بالألمانية للرباعيات. وكانت المسافة بين إيفيان وبلدة فرايبورغ الألمانية التي تشتهر بمكتبة عريقة تضم كتباً قديمة، ما يقارب من خمس ساعات بالسيارة.

وعليه توجهت إليها، وبعد البحث قالوا لي إن الكتاب غير متوافر عندهم، وربما أجد بغيتي في مكتبة جامعة فرايبورغ. وفيها التقيت بالكتاب الذي رفضوا بيعه لكونه من مقتنيات الجامعة، ووافقوا على نسخ الصفحات التي أبحث فيها عن رباعيات محددة، مقابل مبلغ من المال.

وما أثار إعجابي كيفية حفاظهم على الكتب وتعاملهم معها، حيث ارتدى المختص القفازات، وبالملقط كان يقلب الصفحات حتى وصلت إلى مرادي. وقالوا لي إنهم سيصورونها ويسلمونها لي في اليوم التالي، وهكذا دفعني شغفي إلى قيادة السيارة لعشر ساعات، ذهاباً وإياباً».

ذاكرة بالصور

وبصحبة القرق، نخرج من المكتبة إلى مكتبه الخاص المستقل أيضاً، ليبدأ بعرض مجموعة جديدة تعتبر غيضا من فيض عن الرباعيات، وغلاف كل منها أجمل من الثاني برسوم وزخرفة استلهمها الفنانون من وحي عوالم أشعار الخيام ومدارس الفن في زمنه.

ويشبه مكتبه الثاني سرداباً للذكريات مع كتاب وأدباء من رواد العصر الذهبي للنهضة العربية، التي ترويها صوره الفوتوغرافيا، وتحتل المساحة الأكبر من جدران المكتب، مثل عدنان تللو، الرحالة السوري الذي جاب العالم على دراجته النارية، وأصدقاء عمره، على رأسهم: المرحوم الشاعر صقر بن سلطان القاسمي.

والكثير من الأدباء، مثل: الشاعر هارون هاشم رشيد والناقد بدوي طبانه وأنور الجندي والدكتور حسين نصار والدكتور مصطفى محمود والدكتور يوسف بكار والرسام حسين بيكار. ومن الممثلين: يحيى شاهين وعماد حمدي.

عطاء لا ينضب

وأسوة بالأدباء ومحبي الثقافة، لا يتوقف القرق عن العطاء والإنتاج، والذي يقول عن أعماله المستقبلية: «لدي كتاب تحت الطبع حالياً، خاص بالحكم والأمثال. وأعمل على كتابين آخرين قيد التنقيح، أولهما عن الوصف في الشعر العربي، والثاني عن الأمثال في الشعر العربي لتتضمن ما قيل قبلها وبعدها».

سيرة

درس محمد صالح القرق «1936» في مدرستيّ «الفلاح» و«الأحمدية»، وهما المدرستان الرائدتان في دبي، حينئذ. شُغف منذ طفولته بالأدب والثقافة. وتدرج في وظائف رسمية لسنوات عدة، ليتفرغ بعدها لأعماله التجارية الخاصة، وهواياته الأدبية والثقافية. يجيد القرق إلى جانب العربية، الإنجليزية والفارسية والأوردية. نشر إلى جانب أشعاره ومقالاته في الدوريات ترجمته لأشعار رباعيات الخيام، في ديوان صدر عام 2008.

فيلسوف وشاعروعالم رياضيات وفلك

يأتي عنوان «رباعيات» من صيغة الجمع للكلمة العربية رباعية، والتي تشير إلى قالب من قوالب الشعر الفارسي. والرباعية مقطوعة شعرية من أربعة أشطر تدور حول موضوع معين، وتكوّن فكرة تامة. وفيها إما أن تتفق قافية الشطرين الأول والثاني مع الرابع، أو تتفق جميع الشطور الأربعة في القافية.

غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام، المعروف باسم عمر الخيام «1048-1131»، عالم وفيلسوف وشاعر فارسي مسلم. تخصص في الرياضيات والفلك واللغة والفقه والتاريخ. وهو أول من اخترع طريقة حساب المثلثات والمعادلات الجبرية، واشتهر برباعياته. وأتاح له التفرغ للعلم والمعرفة التفكر بأمور وشؤون الحياة.

كما لعبت الأحداث السياسية الصعبة في القرن 11، في ظل احتلال السلاجقة لجنوب غرب آسيا، دوراً مؤثراً في نشأة وحياة الخيام. ودُفن الخيام في مقبرة المسلمين في بلدة نيسابور- مسقط رأسه، ويعد نصب ضريحه الذي شيده عام 1963 النحات والمعماري هوشانغ سيهون، تحفة فنية ذات شهرة عالمية.

Email