نظرة مبتكرة إلى مسيرة البشر نحو مستقبل الكوكب

« 7 أشياء رخيصة» دليل عن الطبيعة والرأسمالية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع مطلع كل عام جديد، درج المشهد الثقافي والفكري في عالمنا على أن يشهد أفكاراً واجتهادات تنحو في أغلبها إلى استعراض ما سبق في الماضي، وأيضاً إلى اتباع عملية تنبؤ وتوقعات لما يمكن أن تنطوي عليه صفحات المستقبل.

وبديهي أن على القارئ المتأمل والمثقف المتمعن أو المتعمق أن يميّز بالذات بين تنبؤات المنجّمين وتوقعات المحللين: الفئة الأولى تتعامل بالطبع مع مسار الأفلاك وطوالع النجوم، بينما تستند الفئة الأخرى في توقعاتها إلى المنهج العلمي الذي ينطلق من دروس التاريخ ومعطيات الواقع المُعاش وصولاً إلى تصورات للمستقبل المفروض ارتقابه.

في ضوء هذا كله، نتعامل في هذه السطور مع الكتاب الصادر في أميركا في الهزيع الختامي من عام 2017 المنصرم.

والكتاب يحمل العنوان التالي: تاريخ العالم من خلال 7 أشياء رخيصة.. دليل إلى الرأسمالية والطبيعة ومستقبل الكوكب.

مؤلفا هذا الكتاب هما البروفيسور راج باتل، الأستاذ بجامعة «تكساس»، وزميله جاسون مور الذي يقوم بتدريس تاريخ العالم بجامعة «بنغامتون»، وكلاهما فائز بأكثر من جائزة عن كتابات ودراسات تتعامل مع قضايا البيئة والاقتصاد على مستوى العالم أيضاً.

للوهلة الأولى تراود قارئ هذا الكتاب حالة أقرب إلى التحفز بل الاستغراب. لمــاذا؟.. لأن الكتاب يبدأ بداهة بمقدمة تتلوها 7 فصول، فضلاً عن خلاصة تختم مقولات الكتاب.

أما الذي يستدعي الاستغراب فهو حجم المقدمة التي يصدّر بها المؤلفان تلك المقولات، لقد بلغ حجمها 43 صفحة بالتمام والكمال، ويعمد فيها المؤلفان إلى تهيئة القارئ لما سيطالعه من أفكار معظمها غير مسبوقة أو حتى غير مأهولة تموج بها فصول الكتاب السبعة التي تتوزع موضوعاتها عبر المحاور التالية:

الطبيعة، النقود (الأموال)، العمل، الرعاية، الغذاء، الطاقة، حياة المخلوقات.

على أن المؤلفين يعمدان أيضاً إلى إضافة تعبير «رخيص» وصفاً لكل من تلك المحاور، باعتبار أن كل محور إنما يستند إلى ما جادت به الطبيعة التي لم يكن للبشر فضل في خلقها وتمهيدها وإتاحة مواردها لمنفعة الإنسان.

وفي الفصل الأول.. يذهب مؤلفا الكتاب إلى أن الطبيعة ليست «كياناً» معيناً بقدر ما أنها «أسلوب» لتنظيم الحياة وجعلها أيسر معاشاً وأرخص كلفة. وهما يتابعان تطور العلاقة بين البشر والطبيعة ليصلا إلى القول بأن خارطة العالم الحديث ما هي إلا محصلة لنزعة البشر إلى الغزو والاستيلاء ومن ثم التعّدي على ما جادت به الطبيعة من موارد وإمكانات، وهو ما يفسر ظاهرة الاستعمار.

وفي الفصل الثاني يتوجهان تحديداً إلى منطقة الهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام)، والتي تعد أول من شهد التعامل بالنقود التي اصطنعها أهل المنطقة من المعادن النفيسة لتسهيل المتاجرة في ناتج المزروعات، وكان ذلك- كما يذكر المؤلفان في عام 1788 قبل الميلاد.

هنالك تحول العالم من فكرة تيسير سبل التجارة إلى سلوكيات و«أساليب» الاقتناء وتكديس النقود، ومن ثم دخول حقبة القوة المالية، ومنها إلى حقبة التحول إلى استخدام القوة العسكرية، فيما أصبح يعرف بأنه الحقبة الثنائية التي جمعت – كما يقول الفصل الثالث من هذا الكتاب - بين الرأسمالية والاستعمار، ومن هنا تدلف مقولات الكتاب إلى ما انطوت عليه تلك الحقبة من ظاهرة «العمل الرخيص» (الفصل الثالث).

حيث استباح المستعمرون كدح الأيدي العاملة في المستعمرات. ثم يسوق الكتاب أمثلة من سلوكيات كريستوفر كولومبوس، مكتشف رقعة العالم الجديد (أميركا) الذي تعامل مع شعوب تلك الأصقاع (في منطقة البحر الكاريبي)، على أنها في مرتبة أدنى من البشر، ومن ثم يجوز استغلالها إن لم يكن استعبادها، لأداء أعمال الرعاية وإنتاج صنوف الغذاء وتوفير إمكانات الطاقة.. مقابل أرخص التكاليف (الفصول من الرابع إلى السابع).

في هذا السياق أيضاً، تروع القارئ أبعاد الصورة غير المألوفة التي طالما رسموها للمكتشف الشهير كولومبس: لم يتورع الرجل عن اختطاف واستعباد واستغلال نساء شعوب المايا (الهنود الحمر سكان الأميركيتين الأصليين): ما إن طالع جموعهم في الجزر الكاريبية حتى كتب إلى رعاته في إسبانيا، وفي مقدمتهم كل من الملك فرديناند والملكة إيزابيلا قائلاً:

- علينا باسم الثالوث المقدس (!) أن نواصل نقل وإرسال جميع هؤلاء العبيد لكي يتم بيعهم.

هنا أيضاً يطرح مؤلفا الكتاب السؤال البديهي:

- كيف كان كولومبوس يعرف قيمة بيع العبيد؟

ويجيب الكتاب من واقع سيرة المكتشف الشهير موضحاً أن نشأته الأولى في مدينة جنوة الإيطالية جعلته على دراية بعمليات بيع الرقيق في أسواق النخاسة، سواء في إيطاليا – القرن السادس عشر- أو في إسبانيا ناهيك عن البرتغال التي كانت أول من استخدم أهل جزر الكناري عبيداً تم استغلالهم في المناطق الحارة لزراعة وإنتاج قصب السكر على امتداد قرون سبقت من ذلك الزمان.

ثم ينتهي الكتاب في خلاصته إلى أن الأشياء الرخيصة التي ننعم بها في حياتنا لم تكن من صنع نفسها، ولكنها نتجت – كما يقول المؤلفان- عن خليط شديد الفعالية وبالغ العنف من الأفكار والغزوات والمبادلات التجارية على نحو ما شهده العالم الحديث. كما أن هذه الأشياء جاءت أيضاً محصّلة لتفاعل ثنائيات مزدوجة: المجتمع والطبيعة.. الرجل والمرأة.. الغرب والأطراف الأخرى خارج الغرب.. البِيض وغير البيض.. الرأسمالي والعامل الأجير.. كل هذه التفاعلات صنعت حياة البشر في شكلها الراهن..

وها هم البشر – تضيف خاتمة الكتاب- بانتظار أن تتطور كائنات الذكاء الاصطناعي – (الروبوت) إلى حيث تنهض بكثير من المشاق لأداء الأعمال المرهقة التي مازال يتعين على البشر حمل مسؤوليتها، وهو ما يمكن أن يضفي على حياة هؤلاء البشر مزيداً من الراحة وسعة من الوقت لزوم المتعة والبهجة والاستجمام.

Email