قراءات في الخلافات بين واشنطن وبكين ومصالحهما المشتركة

أميركا والصين.. روابط مصيرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

على الخارطة المنبسطة أمام عيوننا، نشاهد الولايات المتحدة عند أقصى طرف في غرب العالم ويفصلها المحيط الأطلسي عن أولاد عمومتها في أوروبا الغربية. ولكن، لأن الأرض كروية.. يتمثل التناقض الجغرافي في أن ساحل أميركا الغربي يطل على المحيط الهادي (الباسيفيكي)، وهو الفاصل الوحيد الذي يفضي إلى الصين باعتبارها رقعة اليابسة المنبسطة عند أقصى الطرف الشرقي من قارة آسيا. ومن هنا، تصبح أميركا والصين من أهل الجيرة الباسيفيكية كما قد نصفها مع مستهل هذه السطور. وإذا ما تجاوزنا هذا الواقع، بل هذا القَدَر الجغرافي، لوجدنا أن هناك الكثير الكثير من الروابط التي جمعت، وتجمع، بين القطبين الأميركي والصيني عبر مراحل التاريخ.

إنها روابط مصيرية. هذا هو بالضبط العنوان الرئيسي للكتاب الذي نعايشه في سطور العلم بين أيدينا، إذ عمد مؤلفه إلى استكمال هذا العنوان بعبارة شارحة تتلخص فيما يلي: تاريخ انشغال أميركا بالصين.

والمؤلف هو البروفيسور غوردون شانغ، أستاذ العلوم الإنسانية والمتخصص أيضاً في تاريخ أميركا في كبرى جامعات الولايات المتحدة.

وبادئ ذي بدء.. فإن قراءة اسم المؤلف..كفيلة بأن تدلنا على أنه مفكر أميركي من أصول صينية، وبمعنى أنه أقدر من سواه على معالجة موضوع يتصل بالروابط القدرية بين أميركا والصين على نحو ما يدل عليه عنوان الكتاب.

يستهل مؤلفنا مقولات الكتاب موضحاً أن الأميركيين كانوا ولايزالون يتعاملون مع الصين من منظور ثنائي فريد يجمع بين عاملين: الانبهار والتخوّف.

ثم يعمد المؤلف إلى خدمة موضوع الكتاب من واقع الإحالات والاقتباسات التي يستقيها وفق منهجه الرصين في البحث العلمي. ومن خلاله، يطالع القارئ إشارات وإحالات تتنوع بشأنها مراجع بحوث الكتاب، ما بين الأعمال الأدبية إلى التراجم والسير الشخصية فإلى تجليات الثقافة الشعبية، فضلاً عن المرجعيات السياسية، بحيث يستخدمها المؤلف في مجموعها من أجل تقصي وتدقيق عوامل الانشغال الأميركي بالشأن الصيني، على اختلاف أنماط وتجليات هذا الانشغال.

وفي هذا الإطار، يتابع مؤلفنا ما شهده القرنان الثامن عشر والتاسع عشر، من إرهاصات الانشغال الأميركي بأمر الصين الجار الآسيوي الباسيفيكي، على نحو ما أسلفنا بيانه: بدأت المسألة بمحاولة مستوطني أميركا الرواد شقّ طريق عبر المحيط للوصول إلى أصقاع قارة آسيا. وكانت هذه المحاولات المبكرة بمثابة جسور عبرت على متنها تجارة أميركا المبكرة مع الصين، طلباً لمصنوعاتها ومنتوجاتها، وتوسعت حتى في تلك الحقبة شبه البعيدة، إلى طلب عمال من الصين لبناء وتعمير أصقاع الغرب الأميركي. وفي غمار هذه الجهود، سادت روح إعجاب الأميركيين بثقافة الصين العريقة، وهو ما دفع بجموع من أهل التبشير المسيحي إلى طرق أبواب الصين، في محاولة وصفوها في تلك الأزمان بأنها إنقاذ الأرواح التي تعيش في ساحات لم تعرف الطريق إلى حيث الطريق المستقيم.

ويطالع قارئ هذا الكتاب، سير وإنجازات.. وأحياناً إخفاقات، العناصر الأميركية التي ظلت تدق أبواب الصين: مقاولون.. مبشرون.. أكاديميون.. فنانون.. ناشطون مهتمون بقضايا الشأن العام.. ثم دبلوماسيون.

وبديهي، أنه لم يكن الاتصال بين القطبين الأميركي والصيني، يشكّل مسيرة من طريق واحد.. كان، بدقة، تواصلاً بين القطبين: الأميركيون ذهبوا كما تذكر سطورنا السابقة- زرافات ووحداناً إلى الصين. وفي المقابل، جاء الصينيون إلى الأراضي الأميركية: تجاراً وصنّاعاً.. ومهاجرين فانتشرت بفضلهم المطاعم والأطعمة الصينية التي باتت تشكل جزءاً من الحياة اليومية الأميركية حتى الآن.

ويوضح المؤلف أن ازدياد وتكاثف موجات الهجرة من الصين إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك الأعداد الضخمة من طلاب الجامعات والدراسات العليا، أدى في تصوّره- إلى تغيير طابع وشخصية المدن الأميركية وضواحيها، بل والمدن الصغيرة، ومنها، كما يقول أيضاً البلدة الصغيرة التي يسكنها المؤلف شخصياً في جنوب ولاية إنديانا.

والحاصل، أن علاقات أميركا الصين، قد تراوحت بين دفء التفاعل في ماضٍ سبق وبين برودة العداء التي شابت تلك العلاقات، وخاصة خلال سنوات الحرب الباردة، من مطلع الخمسينيات إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث رفضت واشنطن الاعتراف بالصين عضواً في المنظومة الدولية.. إلى أن حان وقت العلاقات الراهنة التفاعلية التي بدأت، كما يؤكد المؤلف بمباراة في لعبة تنس الطاولة، وكان ذلك خلال ولاية الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون (1913- 1994). وبعدها، دخل الطرفان في «شهر عسل» دبلوماسي وسياسي، على يد الدبلوماسي الأشهر هنري كيسنجر. ويومها سألوا الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عن هذه التحولات في علاقات البلدين، فما كان منه إلا أن أعلن قائلاً: سمعنا من يدق بإلحاح على أبواب سور الصين (العظيم)، فكان أن فَتحْنا واستقبلناه. هذا كل ما في الأمر.

Email