صوته الوقور كان شعاعاً يهتدي به المستمعون وسط الأزمات

«صوت أميركا».. قصة رائد الإعلام لوويل توماس

ت + ت - الحجم الطبيعي

بين بدايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين استطاعت البشرية أن تحرز انتصارات باهرة وخاصة في مجال الاتصال والإعلام.. ما بين اكتشافات «فاراداي» (ﺘ. 1851) في التعرف على مسارات التيار الكهربائي إلى بحوث «مكسويل» (ﺘ. 1879) عن الموجات الكهرومغناطيسية ومن ثم كان توصّل «ماركوني» (ﺘ. 1937) إلى معجزة حضارية اسمها «اللاسلكي».

هكذا، ومع حلول عشرينات القرن الماضي أصبح المجال مهيأً لدخول الجهاز السحري العجيب في حياة الناس، حاملاً اسم المذياع الراديو، ومنطوياً بحكم التعريف - على إضافة باهرة بكل المعاني إلى حياة الناس، كي يتلقوا آخر الأخبار ويصغوا إلى نجوم مستجدة في حياتهم حملت الاسم النجومي الجديد: المذيعون.

وفي مقدمة هؤلاء النجوم، يتجلى اسم يتوقف عنده ملياً تاريخ الصحافة والإعلام في أميركا والعالم: لوويل توماس، اسم ربما طوته الأحداث وربما غابت شمسه إلى غروب النسيان. ولكن اختار العالِم الأميركي، البروفيسور ميتشل ستيفنس، أستاذ الإعلام بجامعة نيويورك، أن يصدر عنه في الأشهر الماضية واحداً من أحدث مؤلفاته، ولم يكن صدفة أن يختار المؤلف لهذا الكتاب الصادر أخيراً عنواناً رئيسياً هو:

.. صوت أميركا. ثم يمهد المؤلف للعنوان السابق بعبارة ينشرها على غلاف الكتاب، وهي: لوويل توماس واختراع صحافة (إعلام) القرن العشري ن.

ومن هنا تتبدى قيمة هذا الكتاب، في ما أصبح يمثله عبر صفحاته، التي زادت كثيراً على الـ300، بوصفه مرجعاً محورياً وشائقاً في الوقت نفسه، من مراجع الإعلام المعاصر: أصولاً ودوراً ورواداً وتطوراً. ولا تزال مسيرته متواصلة حتى كتابة هذه السطور.

يضم الكتاب 14 فصلاً تبدأ بأصول نشأة الصحافي الإذاعي الأميركي توماس، وتتابع مراحل نضجه وتطوره، فيما يحرص المؤلف عبر هذه الفصول، على متابعة المواقف والمشاهد التي تعرض لها «بطل» الكتاب ما بين النشأة في حواري شيكاغو من أعماق الولايات المتحدة. وقد كان الميلاد في إبريل من عام 1892، وإلى الرحيل الأبدي في عام 1981، بعد مسيرة حافلة شملت، كما توضح فصول كتابنا، مشاهد متباينة من حيث الشكل والمضمون: ما بين العمل الصحافي في جرائد أميركا.. وإلى العمل الإذاعي، حيث بات نجماً ساطعاً من نجوم الراديو في عام 1930، وكان ساسة أميركا في تلك الفترة يتوقفون ملياً من أجل الإصغاء إلى الصوت الإذاعي الواثق.. المتزن للمذيع الأميركي الشاب.

وكان من حظ توماس بطل هذا الكتاب أن يخاطب مواطنيه عبر الميكروفون مع مستهل سنوات العقد الثلاثيني، وهي السنوات التي عانت فيها أميركا من غوائل الشظف والتراجع الاقتصادي التي لا تزال تحمل اسمها المعروف في تاريخ الاقتصاد المعاصر: الكساد العظيم (بمعنى الفادح الخطير).

وهنا يقول مؤلف هذا الكتاب: كان صوته الوقور المتزن بمثابة الشعاع الذي يستهدي به المستمعون وسط قسوة الأزمات. وعلى إيقاع نبراته كان يساورهم قدر من الاطمئنان، سواء في غمار أزمة الاقتصاد، أو مع الأخطار التي لاحت مع نذر اشتعال الحرب العالمية الثانية.

وبعدها، تحّولت جماهير المستمعين إلى مشاهدة توماس، على شاشات التلفاز، قارئاً لنشرات الأخبار.

ولم تكن مسيرة توماس قد اقتصرت على ارتياد آفاق الإعلام الجديد عبر الراديو أو التلفزيون. فكان معاصروه وأنداده في حرفة الإعلام قد تابعوا مسيرته السابقة التي ارتبطت به منذ بواكير الشباب، وهي المسيرة المثيرة حقاً، وكيف لا وقد حملته الصحافة، وهي مهنة «البحث عن المتاعب»، كما يسمونها، إلى ارتياد مواقع شتى على خريطة عالم بواكير القرن العشرين.

ولعل أهم هذه المواقع يتمثل في التالي: زيارة لوويل توماس، وحياته وإقامته.. وربما مغامراته في شبه الجزيرة العربية.

وكان طبيعياً أن يتم اللقاء بين مندوب الاستعمار البريطاني في تلك الفترة: «ت. لورانس» (1888- 1935)، وبين الصحافي الشاب القادم من الأصقاع الأميركية. وكان طبيعياً أيضاً، أن يُصدر توماس كتاباً بعنوان «مع لورانس في بلاد العرب»، موضحاً فيه مدى استفادته من تجربة الاستعمار الإنجليزي في فهم جوانب شتى من الحياة العربية، وهو ما دفع الصحافي الأميركي وقتها، إلى ارتياد آفاق وأقطار أخرى، وفي مقدمتها «التِبت» التي وصفها توماس بأنها «سطح العالم». وكان طبيعياً كذلك، أن يكون في هذه الزيارات وهذه التفاعلات مع أقطار وشعوب بعيدة عن وطن النشأة الأميركي، وهو ما زوّد شخصية الإعلامي الأميركي الرائد، بمعلومات متنوعة وخبرات ثرية. وعندما عمد رائد إعلامي أميركي آخر، وهو: والتر كرونكايت (1912- 2009)، إلى تلخيص حياة زميله الأقدم «لوويل توماس»، استخدم كرونكايت عبارة دالة تقول بما يلي: «.. أمضى توماس في خدمة الإعلام نحو نصف قرن من عمر الزمن. لكنه استطاع أن يدمج (في حياته ومهنته) قرنين من الزمن مع بعضهما البعض». أما حياة «لوويل توماس» نفسها، فإن مؤلف كتابنا يكاد يوجزها في موقفين: الأول حين كان بطل هذا الكتاب في سن الـ23.. فيومها أعلن عن أهدافه قائلاً:

سأظل أنجز الأشياء التي تجعل الناس يذكرونني بخير دائماً.

وأما الثاني فيتجلى في موقفه عندما بلغ الثمانين، حيث لم يتردد في إجابته عن سؤال لصحافي سأله عن دروس مسيرته الطويلة: «.. عندما أسترجع مسيرتي فربما أتصور أنه كان من الحماقة أن أُقدم على إنجاز أمور كثيرة ومتداخلة. اللهم إلا أن أعترف بأنها كانت مصدراً للبهجة إلى حد كبير».

الكتاب:

«صوت أميركا».. قصة رائد الإعلام لوويل توماس

المؤلف:

ميتشل ستيفنس

الناشر:

مؤسسة سان مارتن

الصفحات:

328 صفحة

القطع:

المتوسط

Email