رسالته «أتهم» سببت محاكمته بتهمة تحدي السلطات

اختفاء إميل زولا..حب وأدب وفرار

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يقدم عمل المؤلف مايكل روزن رؤية مثيرة للاهتمام تعالج فكر وأهواء وسياسة وأعمال المؤلف إميل زولا، ويعالج القصة المثيرة لهروبه إلى لندن عقب قضية دريفوس الفضائحية. فعشية الثامن عشر من يوليو عام 1898 بدأ الروائي العالمي الشهير رحلة الهرب، أما جريمته، فتحدي السلطات العليا في البلاد من خلال رسالة مفتوحة بعنوان «أتهم»، وخسارة القضية.

وكانت قضية دريفوس في تلك الأثناء تقسم فرنسا إلى نصفين، جانب اصطف مع معسكر الملكية والقومية والكاثوليكية، وآخر ضم تحالف الجمهوريين والعلمانيين والاشتراكيين والبروتستانت.

أجبر زولا على مغادرة باريس فاراً بالملابس التي عليه وقميص ملفوف بصحيفة، واتجه إلى إنجلترا دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن موعد العودة. تلك هي العناوين العريضة والمختصرة لرحلته في المنفى. أما روزن فيتعقب مسار زولا من محطة باريس الشمال حتى لندن، مستطلعاً أهمية هذا العام.

بعمر السابعة والخمسين، وبحزمة لا تتعدى قميص النوم والجريدة وقصاصة ورق عليها اسم فندق غروفنر، شق زولا طريقه عبر الساحل متجهاً نحو كاليه، واستقل سفينة إلى إنجلترا، حيث عاش عاماً كاملاً معزولاً في لندن أمضاه بمعظمه في سلسلةٍ من المنازل والفنادق في أحياء بغيضة في «أبر نوروود»، وكريستال بالاس وويمبلدون.

وتنطلق رواية مايكل روزن الدقيقة المتعاطفة لهذه الحقبة من حياة زولا في تعريفنا على تركيبة حياته في المنفى وطبيعتها. فنطّلع على تفاصيل معاناته مع الوحدة وآماله الخائبة بالعودة إلى باريس ونمط عمله وهواياته ومساكنه المؤقتة فانهياره وإصابته بالإحباط.

واتسم تدخّل زولا في صف المؤيدين لدريفوس بالحماسي، حتى لا نقول الحاسم. وقد كتب ورئيس تحرير صحيفة «لورور» الفرنسية، جورج كليمنصو مقالاً بعنوان «أتهم»، كان في الواقع رسالة مفتوحة إلى الرئيس الفرنسي آنذاك، فيليكس فور، ووجه فيها الاتهامات إلى كبار قادة الجيش بالتآمر والتلاعب بنتائج المحاكمات. وأقدم زولا على التشهير برغم علمه التام أن ذلك قد يثير نقمة السلطة عليه.

أوضح المعسكر المؤيد لدريفوس أن الاكتشافات الحديثة في القضية التي تثبت براءة دريفوس يجب الاستماع إليها في المحكمة، لكن ذلك لم يحصل.

وقد أكدت السلطات أن الأدلة لا تتعدى كلام زولا. وصدر حكم بحقه بالسجن مدة عام كامل ودفع غرامة بقيمة 3000 فرنك. إلا أنه قرر بدلاً من الامتثال وتمضية مدة العقوبة الهرب إلى إنجلترا.

وساهم المنفى في زيادة تعقيدات شبكة علاقات زولا، سيما بوجود زوجتيه ألكسندرين وجيان وولديه دنيز وجاك.

وتلخصت الحالة النفسية لزولا في تلك الآونة بالألم والغضب من انزلاق فرنسا، برأيه، إلى البربرية، ومساندة الظلم بجو من التآمر وإطلاق قوى العنصرية بوجه الأقلية.

وحين تأكدت مسألة إعادة محاكمة دريفوس عاد زولا إلى فرنسا، بعد 11 شهراً في منفاه الإنجليزي. أخلي سبيل دريفوس بعفو عام مقته زولا باعتباره دجله قانونية. وتوفي في 29 سبتمبر 1902 مسمماً بأحادي أكسيد الكربون مع ألكنسدرين فيما كانا نائمين بفعل مدخنة مسدودة، في حادث اعتبره كثر مدبراً.

شكل المنفى حلقة استثنائية في حياة زولا من حيث أنقذ نفسه من اضطرابات باريس ليهوي في منازل جنوب لندن وفنادقها. وقد ناضل للحفاظ على اتصال خيوط حياته الثلاث وارتباطها بموطنه: حبيبتيه وأعماله الأدبية ورؤيته السياسية. وبدا العبء ثقيلاً في بعض الأوقات، التي تخللتها فينات هدوء وأمل.

لم يكن زولا بحاجة لإقحام نفسه في كل ذلك، والغرق في كتابة المزيد من الروايات، سيما أنه كان يحقق نجاحات تلو الأخرى. كما كان باستطاعته عرض الصور التي كان يتقن التقاطها، لكنه آثر الارتماء في أحضان العاصفة الفرنسية، والتفاني فيها، مضحياً بشهرته وثروته، وحتى حياته إذا صدقت شكوك تدبر حادثة الاختناق، ليكون قد دفع الثمن الأعظم الذي يمكن أن يدفعه إنسان. وقد كان برأي روزن واحداً من الأوائل في الحركة الاشتراكية في العالم، ممن يدفعونها بوضوح في مسار مناهض للعنصرية، ويعتبر من هذا المنطلق بطلاً.

جسّد تدوين روزن لشهور الفرار محاولة بديعة ومؤثرة بعمق في كثير من الأحيان لكشف النقاب عن بعض من تضحيات قدمتها شخصية وجدت نفسها مرغمة، من غور الأزمة وقلب أحياء جنوب لندن بالتشبث بالشجاعة الأخلاقية الكافية، التي ستؤدي بنهاية المطاف لتبرئة ساحة دريفوس في لحظة طبعت عميقاً ضمير الإنسانية.

Email