ثنائيات سردية للكاتبة نورا المطيري محورها معاناة الأنثى

«جملون».. أغنية البرقوق تنتظر الربيع

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في «جملون» روايتها الأولى، لا تركن الكاتبة والإعلامية نورا محمد المطيري لأسلوب سردي واحد.

إذ «على ضوء خافت لمصباح قديم» تلج العوالم المتلاطمة لروايتها، راكبة تلك الأمواج المُحملة بمختلف احتمالات السرد من جهة، ومختلف احتمالات المصائر لشخصيات هي بمعظم تشكلاتها وخيارات حياتها، ضحية لتلك المصائر، في جدلية تابعة لعلاقة الفرد بالمجموع، ولأزمة الذاتي في خضم سطوة الموضوعي.

الاختلاف يباغتك منذ الصفحات الأولى للرواية، وهو يتجلى هنا كاختلاف بالمبنى: (أسماء الشخصيات، المساحة المقترحة لمكان الأحداث، الزمان واستشفافاته)، وبالمعنى: (التأمل الوجداني العميق لمفهوم القرية، ومفهوم المدينة وما يرتبط بها من تشويه للقيم والنقاء).

وتشف المطيري التي سبق وأصدرت عدداً من الكتب والأبحاث، في هذه الرواية، عن حرص واع رشيد في كيفية إدارتها لصراعات العمل، وتسلسل أحداثه.

ورغم الحرص الذي تتمسك به الكاتبة في مختلف مراحل الرواية، إلا أن ذلك لا يمنعها من كشف ثيمتها الرئيسية له منذ صفحته الأولى، وهي الأنثى؛ المرأة بمختلف ما يرتبط بهذا الكائن في بلاد الشرق المنكوب من تداعيات وتفاصيل واستلاب حقوق وأزمة وجود وعناوين خلاص..وتناقضات صارخة عند من يقابلها من الرجال بين الرغبة واللعنة..وبين الرفض والقبول. إنه التناقض الذي تنسحب مفاعيله، فإذا بها تصيب المرأة في تعاملها مع بنات جنسها.

ولكن، وفي حالة (آفين) بطلة الرواية وضحيتها على الإطلاق، فإن اللعنة لا تقتصر على كونها امرأة، ولكنها تمتد لتشمل هذا الحمل الزائد من الجمال الطاغي: «لعنة جمالها كانت تسبقها خطوة»، فكيف يكون الجمال لعنة؟ هذا ما تسهب المطيري في قص معطياته، وسرد تلوناته، واختبار ردود فعله المشوّقة أحياناً، والموجعة أحياناً أخرى.

هذا الجمال، ويا للحظ العاثر، ويا للعقدة الدرامية المستدعية كتابة أثرها وإرثها وسِفرها وأسفارها، يقع في فخ الإنكار، ولكن متى وأين ومع من؟ : مع زوجها آش رندل (المجرم الخسيس الأقرب للمسخ منه للإنسان)، الذي بلتها أمّها جيهان به.

وفي ثنائية آش- آفين، ومع ملاحظة الاستهلال الألفي المشترك للاسمين، فإن حجم التناقض وفداحته، يجعل الشراكة ضرباً من التجديف. إنها الثنائية التناقضية الصراعية.

البعد المكاني الذي تفسح له المطيري مساحة واسعة في بداية الجزء الأول من الرواية، هي قرية «جملون»، التي ولدت فيها آفين، وفيها ترعرعت وحظيت بأولى تعاريج التعرف على محيطها: الأب ماريو الذي يعاند الوقائع ويدير ظهره لمعطيات العلم والمنطق والرياضة والحساب، فيصر على زراعة البرقوق في بلدة لا تناسبها زراعة البرقوق.

وفيها تتعرف إلى ذلك، على شقيقتها ريتاج، وشقيقيها: دجوار وإلفانت..وعلى أمها جيهان وعلى تناقضات شخصية هذه الأم، وهوجها وأطماعها والتفاصيل المأساوية التي تخفيها.

وفي مطلع ما أرادت المطيري تحميله لآفين من مسؤوليات، نجد رفقها بالحيوان (رفقها هي وبالتالي رفق آفين) رائية أن من «يرفق بالحيوان يرفق بكل شيء»، وهو الرفق الذي جعل المطيري تؤلف كتاباً خاصاً بهذا الرفق (للمطيري كتاب يحمل عنوان «الرفق بالحيوان.. إنسانية»). إنه رفق يتحول عند آفين إلى منهج حياة.

وبين آفين (الملاك تقريباً) وبين آش (الشيطان تقريباً)، تتحرك عشرات الشخصيات الأخرى، وفق منهجية الثنائيات التي تتجلى من بينها ثنائية القرية- المدينة، ثنائية الإقدام (ستيرك) والإحجام (إيكر)، ثنائية الأمومة الرفيقة المعطاء والأمومة الرعناء المهملة المغرقة في أنانيتها. وتتحرك أحداث الرواية، بما يشبه التحرك القدري المُسلّم في كثير من تفاصيله ومفاصله بسطوة المكتوب في صفحات الغيب، وهو ما تُسأل عنه المطيري، فهل قصدت ذلك لتقول لنا: إن الحياة المعاصرة وبما تتسم به من تسارع محموم وفوضى عارمة وعنف قوى غاشمة كاسحة، لا تتيح لنا خيارات كثيرة.

ولا تسمح بخلخلة جلية مُنتجة لقوانين العيش الصارمة، ولقيعان الظلم السافرة؟ أم هو منزلق وقعت فيه الراوية والرواية، فبقينا ننتظر تحرك إيكر السلبي، فلم يفعل، أو أن ينقلب المجن على الطغاة الفاسدين الممسكين بمختلف خيوط المدينة ومصائر الناس فيها، فلم ينقلب، ولم ننعم بلحظة شفاء غليل ضد من خربوا حياة آفين، وقتلوا الطهارة المسكونة بأجلّ مباهج اليقين؟ هي أسئلة برسم الإجابة، ويبدو أنه علينا أن نترقب تلك الإجابة في الجزء الثاني من رواية المطيري الملحمية، والذي ما تومئ إليه في مقدمة الجزء الأول.

 

Email