«رصاصة صديقة» تقود معلمة بيانو إلى مأسـاة اللجوء

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

حوّلت المعاناة معلمة البيانو النمساوية، من أصول لبنانية، سونيا بوماد، من عازفة بيانو، إلى روائية يشار إليها بالبنان. ففي روايتها الأخيرة» الرصاصة الصديقة «الصادرة في العام الجاري 2017، كشفت عن معاناتها هي وأسرتها بعد إصابة ابنتها لارا برصاصة صديقة طائشة، خلال إعلان وقف إطلاق النار في الحرب الإسرائيلية اللبنانية سنة 2006. فمن العادة أن يطلق الناس الرصاص عند فرحة ما..كوقف إطلاق النار.

والرواية التي تستند إلى الواقع تتحدث بتفاصيل مفجعة ومؤلمة عن حياة الأسرة، بعد إصابة لارا ابنة الخمسة عشر ربيعاً، وهي في الشرفة في لبنان، برصاصة استقرت في رأسها وبات الخطر داهماً يهدد حياتها، بعد أن استقرت الرصاصة في رأسها.

ومن يومها، كما تسرد الرواية، ظلت تصارع الموت ومعها أسرتها تصارع من أجل إنقاذها. وفي الخريف، حصلت على فرصة للعلاج في إيطاليا ومعها مجموعة من ضحايا الحرب. وهناك في إيطاليا وجدوا الرعاية الطبية المناسبة لجميع الضحايا ومنهم لارا، كما وجدوا الطيف الجميل من الشباب العربي يقف متطوعاً إلى جانبهم طوال الرحلة.

2007

وفي الشتاء قرر أفراد الأسرة اللجوء إلى النمسا بحثاً عن فرصة أفضل للعلاج والأمان، وعن وطن جديد، وفي شهر مارس من عام 2007، قدمت الأسرة للجوء في مركز ترايس كرخن النمساوي بعد أن علموا أفرادها ترديد كلمة» آزول «بمعنى لاجئ، مع الشعور ببدء لعبة عض الأصابع ومَن يصرخ فيها أولا فهو الخاسر، وهذا الشعور مرّ به جلّ اللاجئين قبلهم..هناك .

حيث تطغى رائحة المكان، ووجوه اللاجئين المكدودة، ورجال الشرطة وملامحهم القاسية، وعدم وجود لغة مشتركة تخفف من معاناتهم، هناك حيث يسكن اللاجؤون في غرف لا تـُقفل أبوابها، يمكن أن تدخلها الشرطة فجأة وفي أية لحظة، وعليهم المشاركة في حمامات مع الآخرين.

«سأكتب بصدق»

كتبت سونيا العمل وهي تروي مأساة أسرتها وكأنها تتحدث إلى نفسها:» سأكتب عن تلك الأيام بصدق، رغم أني لا أعرف كيف سأحبس هذا الفيض من المشاعر داخل جدران الكلمات «. وأضافت:» لماذا تفكر بالرحيل؟

.. وهــل هنــاك أقــسى مــن الشــعور بعــدم الانتماء، وعــدم الأمــان والثقــة بالمســتقبل؟ هـذه الأحاسـيس مجتمعـة تحثـك أحيانـاً عـلى الرحيـل. ولكـن إلى أيـن؟ هـذا هـو السـؤال الأهم «. ولهذا أيضا وصفت الكاتبة كيف كانت مشاعرهم عند وصولهم إلى مخيمات اللجوء في النمسا:» في مخيـمـات اللجــوء.

حيــث كانــت البدايــة، كنــا محــط أنظــار سـكان البلـدة التـي تقـوم عليهـا تلـك المراكـز، كأننـا وأطفالنـا قـد أتينــا مــن كواكــب لا تدركهــا المخيلــة.. مركز اللجوء الحزين الذي يسكنه البؤس، هجرته الطيور الجميلة.

وحلت مكانها الغربان بأصواتها المرعبة «. وعن الناس الذين يعيشون في هذا المكان الذي يعز فيه الصديق، كتبت سونيا:» منهـم مَـن كانـوا يعبـُرون مســرعين، مبعديـن كلابهـم مـن أمـام مدخل المخيم، تخوفاً وتجنباً لعـدوى قـد يحملهـا أحـد اللاجئـين لتلـك الـكلاب اللطيفـة! والبعض الآخر كانوا يتوقفون عارضين مساعدتهم «. وعن داخل المخيم نقلت صورة تطغى فيها المحنة والانكسار:»

كنـا نقـف بالطابـور، يحمـل كل واحـد منـا صينيتـه بيـد وبطاقتـه باليــد الأخــرى، خلفنــا عشـــرات الأشــخاص، وأمامنــا طهــاة مــن اللاجئين «. واختصرت حياة مركز اللجوء بكلمات معدودة:» في مركز اللجوء تشعر أنك داخل سجن كبير، مفتوح الأبواب، ربما جسدك حر نسبياً، ولكن روحك أسيرة «.

فيض حنان وتحد

كان هَم الجميع، الأم وابنتها لارا والصغير جاد، ابن التسع سنوات، ومعهم الأب، أن ينقذوا لارا من موت داهم، وأن يكافحوا في الحصول على فرصة العلاج بأفضل الطرق وهو ما لم يتوافر لهم في لبنان، وتعثر ذلك في رحلتهم إلى إيطاليا أيضا رغم الرعاية التي وجدوها هناك، وفيض الحنان والمساعدة من الجالية العربية، خاصة وأنها رحلة محسوبة الخطوات وقصيرة الزمن.

وشاهدوا كيف أن الأطباء أنفسهم نصحوا بعدم إجراء عملية جراحية نظراً لخطورتها، والتي يمكن للعملية أن تتسبب بالمضاعفات والشلل للارا، فعادوا أدراجهم إلى لبنان.

ولكنهم لم يفقدوا الأمل، رغم الألم الذي كان يعاود لارا في رأسها، فيذكرهم بضرورة التحرك لإنقاذها. كثيرون تعاطفوا معهم، والمقابلات الصحافية والفضائيات ساهمت بنقل الصورة كما هي، فاكتسبوا تعاطفاً أوسع، ولهذا كان القرار، اللجوء إلى النمسا، تاركين الوطن وأحباءهم فيه.

«في فيينا»

وهناك في النمسا أدركوا أن طلبات اللجوء قد تطول لسنوات، بينما وضع لارا لا يتحمل كل ذلك الوقت الطويل، وهي بحاجة إلى علاج طبي ورعاية نفسية في الوقت ذاته:» هذا هو اللجوء، هل تستطيع أن تتحمل؟ ربما ستبقى على هذه الحال لسنوات طويلة، ولن تعرف متى ستكون النهاية «. ولكن هناك مَن بثّ في نفوسهم روح الأمل.

وفي مقدمتهم المحامي الذي تولى قضيتهم، فهي عادلة ومعززة بالصور وأفلام الفضائيات. كل ذلك ساعدهم، حتى القاضي بكى بعد أن شاهد الوثائق والأفلام. ولهذا حصلوا على قبول اللجوء خلال ستة أشهر. ومع حصولهم على قرار الإقامة وانتقالهم للعيش في فيينا، كان على الجميع الاجتهاد في تعلم اللغة الألمانية، وإكمال تعليمهم أو البحث عن عمل، وهو ما تيسر للأم .

حيث حصلت على مهنة مساعدة اجتماعية في مخيمات اللجوء، تقدم من خلالها المساعدة للاجئين بعد أن كانت هي وأسرتها تتلقى العون من آخرين. أما لارا فواصلت دراستها هي وجاد، وواصلا العزف على البيانو لينشدا للحياة والسلام.

حالة نفسية متهالكة

تمكنت سونيا، معلمة البيانو التي تعزف بأناملها أعذب الألحان، أن تعزف بأناملها على الحروف لتكتب تجربتها من خلال رواية» الرصاصة الصديقة «، ولتكتب أروع رواية تراجيدية مفعمة بالأمل. ولكنها عبرت عن حالتها النفسية المتهالكة خلال تلك الرحلة، وأنها لم تكن تلك المرأة الخارقة كما اعتقد البعض، فهي مهزومة وغير متماسكة من الداخل، فكتبت:» مسكينة هذه المرأة الخارقة، لا أحد يشعر بمعاناتها، إنها هشة من الداخل ومحطمة «.

ومع نشر الرواية، تلقت الأم مع ابنتها لارا، العديد من الرسائل، من صحافيين وإعلاميين ومهتمين، تحيي فيهما روح الصمود وتجاوز المحنة. وحتى لارا نفسها كتبت رسالة طويلة إلى أمها نجتزئ منها:» من لارا إلى ملاكها.. أمي الغالية.. لم أقوَ على قراءة كتابكِ الجميل هذا، ربما لأني .

وبعد قراءته ستصبح مسؤوليتي تجاهكِ أكبر، وسأعاملك وكأنكِ ابنتي وطفلتي التي أخاف عليها، بالوقت الذي ما زلت أحتاج فيه إليكِ كأم، أتوق فيه إلى حنانكِ وحبكِ.. أتعرفين يا أمي، عندما كنت أطوف في بحر الغيبوبة، كان طيفكِ هناك معي قرب جسدي، شاهدتكِ ترتدين الأبيض.

وقد نما لك جناحان من ريش كجناحي البجعة البيضاء.. ها أنا قد شفيت وقد تعلمت منكِ معنى الحب والتضحية.. ها أنا شفيت روحاً وقلباً وبعض جسد، وأملي أن أكون مثلكِ أمّاً مجاهدة وصابرة، ومصرة ومنتصرة.. وليدة روحكِ لارا ).

حكايات مآس

لوّنت مآسي وويلات الحرب الأهلية اللبنانية في القرن الماضي، طفولة الكاتبة سونيا بوماد. إذ اختبرت آلامها وعايشتها صحبة أسرتها التي كانت تفر من ملجأ إلى آخر، جراء القصف والقتل.

19

لم تتنازل سونيا عن طموحاتها وآمالها، أمام أي من الظروف والعقبات، إذ، وبعد أن تزوجت وهي في ال19، من العمر، نجحت في إكمال دراستها وهي أم لطفلين، فحصلت على دبلوم في التربية والتعليم، وعملت كمعلمة بيانو ولغة عربية وإنجليزية.

Email