«التشكيلي» عندما يصبح كاتباً

غوغان يرسم بالكلمات هروبه من «جحيم» أوروبا

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ضمّن الفنان التشكيلي الفرنسي بول غوغان (1848-1903)، كتابه الشبيه بالرواية أو المذكّرات، والمنشور عام 1919 تحت عنوان (نوانوا)، جملة أفكاره ورؤاه التي كافح لأجلها، ناشداً سلامه الروحي، الذي افتقده في (أوروبا الفاسدة) التي غادرها في 1891، باحثاً عن (فردوس) لم يصله التشويه والتخريب بعد، فكانت (تاهيتي) هذا الفردوس المأمول. استقر غوغان بداية في (بابيتي)، ثم في (ماتايا).

وأنتج خلال إقامته الأولى في تاهيتي، أعمالاً فنيّة عديدة في الرسم والتصوير والحفر المطبوع والنحت، وفي الوقت نفسه، كان يدبج المقالات وينشرها في بعض الصحف والمجلات، كما أسس مجلة دوريّة ساخرة:

(الابتسامة). وأخذت كتاباته طريقها إلى عدة كتب، منها: (نوانوا) الذي تُرجم إلى الإنجليزيّة عام 1985، وفيه عبّر غوغان عن أفكاره وانطباعاته عن حياته اليوميّة في تاهيتي، بأسلوب روائي شيق مقرون بالرسومات.

ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن غوغان تحريف لكلمة (جوجن)، الذي تعني بلغة الأنكا (الجواد الأصيل)، وكان لا يُسمى (جوجن) إلا الفتى المرشح للعرش. وغوغان، كما كان يؤكد، ينتمي إلى قبائل الأنكا العريقة في حضارتها، وذات الفن، والعلم القديم والحرية والانطلاق والحياة البوهيميّة.

تقاليد

حاول غوغان رسم «فردوسه» المفقود في تاهيتي، بالرسم والتصوير والحفر، إضافة إلى الكلمات، ما حوّل كتابه (نوانوا) ومحتوياته من الرسوم التوضيحيّة، إلى رواية توثيقيّة لمجريات حياته في هذه البلاد، التي أمل أن تحظى فيها روحه القلقة، بالطمأنينة والسلام والاستقرار والفرح، وهي أشياء افتقدها في موطنه فرنسا.

وفي بداية مكوثه في تاهيتي، انتابه شعور بأن المكان الجديد لا يختلف كثيراً عن أوروبا المعطوبة، ذلك لأن الطبقة الأوروبيّة المستَعمِرة لهذه البلاد، نقلت إليها تقاليدها وعاداتها الفجة، التي تصل حد المهزلة. لكنه، بالتدريج، بدأ يكتشف جوانب مختلفة فيها، مطهمة بسحر خاص، تنم عن فطرة طبيعيّة وإنسانيّة، لا تزال بمأمن من العطب والخراب والمدنيّة الفجة، ما دفعه للاستمرار في البحث عن مكامن هذا السحر الخاص، في الطبيعة والناس، ليروي من خلاله ظمأه إلى راحة بال.. وأمان تتوق إليه روحه.

حياة

انتقل غوغان للعيش بين التجمعات التاهيتيّة البعيدة، حيث الحياة فيها لا تزال طبيعيّة، قديمة وجميلة. تعرف على كوخ الماووري الذي لا يفصل الإنسان عن الحياة، ولا عن الكون اللا متناهي والمطلق. هذا الكوخ سمح له بمشاهدة شعاع القمر وهو يداعب قصب الخيزران المنتصب إلى جانبه، وسمح للشعاع بالتسرب إلى سريره.

وفي هذا الجو، لم يعد غوغان يسمع سوى ضربات قلبه، وموسيقى سحريّة بدأت تنبعث بصمت حوله. مع ذلك، ظل يعاني وحدة شديدة وعزلة قاتلة، لأن المسافة بينه وبين ناس هذه البلاد، لا تزال بعيدة، وهم الذين وصفهم في البداية بأنهم متوحشون، وربما هم أيضاً وجدوه كذلك. لكن، شيئاً فشيئاً بدأ غوغان يشعر بأن الحياة الحرة، الإنسانيّة منها والحيوانيّة، أصبحت ملك يديه.

في البيئة التاهيتيّة، التي اعتاد فيها الناس العيش ضمن الطبيعة البكر بمفرداتها الأصل وفطرتها الأولى، اكتشف غوغان أن الاختلاف بين الجنسين أقل وضوحاً عما هو عليه في البيئة الأوروبيّة. فبفضل الأحزمة والمشدات، نجح الأوروبيون في جعل المرأة كائناً مشوهاً. كما اكتشف أن النسيم الآتي من البحر، ومن الغابة، يمنح القوة للرئة، وأنه هنا في تاهيتي، بدأ بالتدريج يتخلص من المدينة والشر..

والحواس الفاسدة التي تسكن في داخله. تلقّف نقاء الضوء الرائع، فأصبح إنساناً جديداً يرسم الأشياء كما يراها، وببساطة متناهية. أصبح يضع الأحمر قرب الأزرق، لكنه تردد في وضع عظمة الشمس وروعتها على قماش اللوحة، بسبب التقاليد الأوروبيّة العريقة التي تُشعر بالخوف والخجل كل مبدع يحاول التعبير عن شعوب متدنية.

فكرة

رغم أن غوغان لم يدرس الفن أكاديمياً، اعتبر رائداً للاتجاه الرمزي في الفن: «Symbolism»، الذي يستعين بالفكرة بدلاً من الواقع، ويهتم بالتشكيل الذي يكتنز إيحاءات تعبيريّة تحمِلها الخطوط والألوان. وكلمة (رمز) تعني أن الشكل ليس ما هو عليه، وإنما ما يُوحي به، لذلك استعاضت الرمزيّة عن الواقع بالفكرة، ولجأ المشتغلون عليها إلى التعبير الحسي عن أشياء خفيّة.

والحقيقة لم تقم التجربة الفنيّة لغوغان على ما يتمتع به من موهبة حقيقيّة، وإنما أيضاً على ما قام برفدها به من بحث وتجريب، مدفوعاً بإرادة صُلبة، وإصرار كبير على مواجهة الصعاب، والقيام بتحولات جذريّة، واعيّة ومستفيضة، الأمر الذي قاده لامتلاك رؤية نقديّة عميقة، وفلسفة متفردة، حول قضايا مهمة بالفن.

لكن رغم ذلك، لم تشتهر أعماله الفنيّة، أو تحظى بالاهتمام الذي تستحقه، من قبل الفنانين والنقاد، إلا بعد وفاته. وفي مرحلة من مراحل حياته، أصبح غوغان وفان كوخ أصدقاء.

وقد دعاه كوخ للعيش معه في منزله، وعندما وافق غوغان، فرح الأول كوخ كثيراً، وقام بترتيب منزله لهذه الغاية، لكن سرعان ما نشبت الخلافات بينهما، وبتأثير هذه الخلافات، قام كوخ بقطع أذنه، ومن ثم دخل مستشفى الأمراض النفسيّة للعلاج، انتحر بعدها بمدة قصيرة، ويقال إن غوغان كان السبب الرئيس في ذلك.

Email